قضايا وآراء

اللمسات الأخيرة لإغراق مصر!

1300x600
1300x600
إن موظفي صندوق النقد الدولي إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة... هذا ليس اقتباسا ولا رأيا، ولكنه مسلمة تؤكدها التجارب ويرويها التاريخ...

على الرغم من أن صندوق النقد الدولي أنشئ بالأساس من أجل دعم الاقتصاد العالمي، وفي القلب منه اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية، إلا أن تاريخه يؤكد أنه متهم بأنه أحد أدوات الشركات العالمية لبناء إمبراطورية السيطرة على اقتصاد العالم، ونهب مقدرات الدول النامية وتدمير اقتصادها، من خلال شروط يحددها الصندوق؛ جلها يصب في مصالح القطاع الخاص المربوط بشكل أو بآخر بالمنظومة المالية العالمية التي تصب بطريق غير مباشر في مصلحة إمبراطورية الشركات العالمية. فتحرير التجارة والخصصة الكاملة للقطاعات الخدمية المهمة في الدولة، كالصحة والتعليم والمياه والكهرباء، والتي هي مسؤولية الدولة وحق المواطن، تدخل المواطن في دائرة الفقر، ومن ثم لا يتداول المال بيد قطاعات واسعة من الشعب وينحصر في طبقة معينة مربوطة - كما قلنا - بإمبراطورية الشركات العالمية (الوجه الآخر للاحتلال القديم).

وتجارب دول مثل البرازيل واليونان وغانا (وهي دول من ثلاث قارات مختلفة اخترتها خصيصا لأثبت أن المخطط لا يقصدنا بعيننا ولكنها أطماع المحتل القديم)، تشهد على تخريب صندوق النقد الدولي لاقتصاديات العالم النامي. فالبرازيل ومع بداية الثمانينيات اقترضت مليارات جديدة لسداد القروض القديمة، مما جعل ثروات البرازيل تعبر الحدود إلى دول تدّعي أنها صديقة على شكل أقساط، واضطرت في سبيل ذلك لأن تسرح ملايين العمال، وتخفض أجور الآخرين لعلاج التضخم المالي، مما سمح لدول أخرى بالتدخل في سيادتها مقابل المبالغ المدفوعة كقروض، حتى أن مندوبي البنك الدولي فرضوا مواد على الدستور البرازيلي. مع حلول التسعينيات سددت البرازيل القروض بالكامل، إلا أن ثرواتها أصبحت بيد 20 في المئة فقط من الشعب، وباقي الشعب تحت خط الفقر، وهو ما جعلها تلجأ للاقتراض مجددا، في دوامة لا تنفك عنها الدول.

وتجربة اليونان ليست ببعيدة عن تجربة البرازيل، فاليونان الفقيرة لم تكن لتدخل الاتحاد الأوروبي إلا نكاية في تركيا، ومع علم الدول المؤسسة للاتحاد بظروف اليونان الاقتصادية، فقد ضخت مليارات اليوروهات من أجل إخراج اليونان من كابوسها الاقتصادي، فدفعت الدول المؤسسة منظمات التمويل الأجنبي لإقراض الحكومة اليونانية بكثافة، فجملت تلك القروض وجه اليونان وجعلتها تظهر بمظهر دولة الرفاهية، حتى استفاق شعبها على الحقيقة في 2009، إذ ارتفعت نسبة الديون إلى 175 في المئة عام 2015، مما جعل التدخل في شؤونها الداخلية أمرا شبه يومي، وفقدت اليونان سيادتها لمصلحة الدول والشركات الدائنة بعد أن فرض الصندوق حزمة إجراءات ارتفعت معها أسعار المحروقات، فتضاعفت أسعار جميع السلع، وانخفض الوضع المعيشي للعمال والفلاحين والفئات الوسطى.

أما تجربة صندوق النقد الدولي مع غانا، فتذكر بالقول المأثور "أسد علي وفي الحروب نعامة"، فلما لم يستطع صندوق النقد الدولي إجبار الاتحاد الأوربي على تقليل دعم المنتجات الزراعية التي تصدرها للدول النامية، فقد أقنع الصندوق غانا بإزالة التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية مقابل منحها قروضا، فغرق السوق بالسلع والمنتجات الأوروبية، ما أدى إلى تضرر المزارعين، كما أدى الإجراء إلى خسارة غانا العملة الصعبة، وهبطت العملة المحلية، وزاد التضخم وانهار الاقتصاد الغاني تماما.

والذي تمر به مصر الآن، ماهو إلا خارطة طريق مشت عليها قبلها الدول الثلاث التي ذكرت سيرتها آنفا. أزمة مصر مع صندوق النقد الدولي، وللحق، ليست من صنع النظام المصري الحالي، فقد بدأها السادات بقرض بلغت قيمته حينها 185.7 مليون دولار، وكان الهدف منه حل أزمتي المدفوعات الخارجية المتأخرة وزيادة التضخم، وكنتيجة مباشرة لهذا القرض خرجت مظاهرات 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977 التي عرفت بانتفاضة الخبز. ولما كان القرض مثل القمار يدمنه صاحبه، فقد مشى على نهج السادات خليفته مبارك، فحصل في 1990 على قرض بقيمة 375.2 مليون دولار لسد عجز الميزان التجاري، لتأتي فرصة الصندوق في فرض شروطه، فاشترط تحرير سعر الصرف وإفساح المجال لمشاركة القطاع الخاص! وهو ما نتج عنه خسارة الاقتصاد المصري للذراع الداعم للمواطن والمتمثل في شركات القطاع العام بعد بيعها في صفقات مشبوهة للقطاع الخاص، في صفقات بلغت 236 شركة بإجمالي 33 مليار جنيه فقط؛ في حين قدرت وقتها بما يزيد عن 270 مليار جنية، وما استتبعه من تشريد ما يقارب المليون عامل. ولم يتوقف مبارك عند هذا القرض، بل استمر في الاقتراض لسداد القروض القديمة، لكن في النهاية لم يجرؤ مبارك على المساس المباشر بعامة الشعب مثل ما يفعل النظام المصري الآن لمصلحة فئة بعينها، فتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، التي دفعت النظام إلى رفع أسعار المحروقات والكهرباء والمياه، وخطة تسريح لستة ملايين موظف التي تنتظر التنفيذ، وتعويم الجنية الذي رفع سعر صرف الدولار في بلد تستورد كل شيء.. كل هذا مس بشكل مباشر بالحياة اليومية للمواطن المصري الذي يعايره النظام المصري ببطاقة الدعم التمويني التي أفرغت من محتواها، ولم تعد تحقق تسكين الألم الناتج عن تلك الإجراءات، لا يحق للنظام الحديث عنها. فالدعم الذي يدفعه النظام المصري في كل مصارفه، لا في التموين فقط، بلغ 332 مليار جنيه، في حين عائدات الضرائب التي لا تستثني أحدا فقيرا أو غنيا؛ بلغت 433 مليار جنيه.

وهو ما يعني أن النظام لا يدفع مليما على هذا الدعم الذي يذهب أكثر من نصفه للأغنياء أصحاب المصانع والمناجم، وهو ما يعني بالنتيجة أن النظام المصري يضع اللمسات الأخيرة، من خلال تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، لإغراق مصر. وفي دولة كبيرة كمصر (100 مليون نسمة)، لن ينقذها طوق نجاة.. فالنجاة الحقيقية في يد شعب جرّب الثورة وعرف حلاوتها.
التعليقات (0)