لم يكن قرار الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب عزل وزير خارجيته ريكس تيلرسون، وتعيين رئيس الاستخبارات مايك بومبيو بدلا عنه مفاجئا، في ظل تنامي عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية. فالخطوط الأساسية لعقيدته للأمن القومي كشفت عن نزعة عسكرية إمبريالية من خلال أطروحة "أمريكا أولا" ومبدأ "السلام بالقوة".
ولا يكل ترامب منذ ترشحه عن الإفصاح عن إعجابه بالجنرالات وازدرائه للدبلوماسيين، وقد عيّن جينا هاسبل مديرة جديدة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خلفا لمايك بومبيو، الأمر الذي يؤكد أن النظام العولمي الأمريكي يقوم بصورة أساسية على مبدأ تفوق القوة العسكرية. فالإمبريالية الأمريكية كقوة تسلطية عولمية عنيفة تشبه "عراب المافيا"، إلا أنها أشد قسوة وأوسع انتشارا وأبلغ أثرا، ولا جدال أن ترامب مفتون بنموذج العراب.
لا شك أن نهج وسياسة دونالد ترامب تمثل تحولا في سياق ديمومة أمريكية معهودة، فطالما كانت الأولوية في الولايات المتحدة للقوة العسكرية، إلا أننا نشهد خلال السنوات الماضية مزيدا من الـ"عسكرة" للسياسة الخارجية الأمريكية، في الوقت الذي تعتمد فيه القوى الدولية الصاعدة، لا سيما روسيا والصين، على القوة الاقتصادية كمحدد أساسي للصعود، وتحدي الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، كما يشير روبرت بلاكويل وجينيفر هاريس في كتابهما بعنوان "
الحرب بوسائل أخرى: الجغرافيا الاقتصادية وفن إدارة الدولة"، الذي صدر قبل سبعة أشهر على الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نيسان/ إبريل 2016، وقد طالبا بإعطاء الأولوية مجددا للقوة الاقتصادية لتحقيق المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة، خاصة بعد الإخفاقات المتتالية للقوة العسكرية في حماية المصالح الأمريكية خارجيا. ويرى المؤلفان أن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 دفعت إلى أن تكون الغلبة للقوة العسكرية في السياسة الخارجية الأمريكية.
بروز النزعة العسكرية الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية عقب هجمات 11 سبتمبر كانت لافتة، فقد ظهرت كتب وأبحاث عديدة تشرح طبيعتها وأهدافها ومخاطرها على العالم عموما، والعالم العربي والإسلامي خصوصا، مع تدشين "الحرب على الإرهاب"، وتحديد الإسلام كخطر وربطه بالإرهاب. وحسب نافذ أحمد، فإن البعد الداخلي لهذه "الحرب على الإرهاب" يتضمن كنتيجة مباشرة القضاء على العدد المتزايد من "أكلة الجبنة عديمي الجدوى"، جحافل من الآخرين غير البيض الذين يتم النظر إليهم في نهاية المطاف على أنهم طفيليات تلتهم الأمن القومي والمالي والثقافي الأمريكي.
في سياق تنامي النزعة العسكرية الأمريكية تحت ستار حرب "الإرهاب" ودعاية نشر "الأنسنة"، أصدر نعوم تشومسكي كتابه "النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة"، وكذلك فعل أندرو باسفيتش، لكن تشومسكي يضع لفظة "الإنسانية" بين مزدوجتين، في سياق تهكمي على منظومة "المبادئ والقيم" التي نظّر لها المحافظون الجدد، لتبرير المذابح والآلام كافة، التي ترافقت مع الغزو الأميركي للعالم، فيما يستغرب أندرو باسفيتش نزوع الأمريكيين إلى تبرير الحرب باسم النزعة الإنسانية.
ألَّف أندرو باسيفيتش سلسلة من الكتب حول موضوع الإمبريالية والقوة العسكرية الأمريكية، كان أحدثها كتابه الأخير بعنوان "الحرب الأمريكية من أجل الشرق الأوسط الكبير: تاريخ عسكري"، الصادر عام 2016، حيث يعيد الكتاب تقييم السياسة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط على مدار العقود الأربعة الماضية، ويرصد حدوث تحول كبير خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي؛ فبعدما وضعت الحرب الباردة أوزارها، شنت الولايات المتحدة صراعا جديدا (حربا من أجل الشرق الأوسط الكبير) استمرت حتى الوقت الراهن، وبعدما كان الصراع الطويل مع الاتحاد السوفيتي يشهد قتالا متفرقا وعرَضيا، أصبحت الأعمال العدائية متواصلة منذ بدأت هذه الحرب الجديدة. فمن البلقان وشرق آسيا إلى الخليج وآسيا الوسطى، أطلقت الولايات المتحدة سلسلة، لا نهاية لها على ما يبدو، من الحملات في أنحاء العالم الإسلامي، أسفرت كلها إلى عكس الأهداف المرجوة، مثل: تعزيز السلام وتحقيق الاستقرار.
يبدو أنّ ترامب مغرم بكل ما له صلة بالحط من الإسلام والمسلمين، وتمجيد المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، إذ لا يدع مناسبة لإبراز كراهيته العميقة للإسلام ومحبته لإسرائيل، وتأكيده ربط الإسلام بالتطرف والإرهاب، وربط إسرائيل بالديمقراطية والحرية، بحيث باتت كراهية الإسلام والمسلمين ومحبة إسرائيل واليهود؛ أحد أهم متطلبات تولي المناصب الرفيعة في إدارته. فجينا هاسبل مديرة "سي آي إيه" الجديدة معروفة توصف بـ"أيقونة التعذيب"، وسجلها حافل بالتطرف تجاه الإسلام، ومايك بومبيو، وزير الخارجية الجديد، مواقفه حافلة بالعداء للعرب المسلمين، ودعمه لإسرائيل. فقد اشتهر بومبيو بمهاجمته للحكومة التركية واصفا إياها بالنظام الديكتاتوري، وأشار إلى أن "إيران وتركيا تقعان تحت حكم نظام إسلامي سلطوي وشمولي". وقد أطلق بومبيو خلال جلسة لمجلس النواب الأمريكي تصريحات يجاهر فيها بعدائه للمسلمين، عقب شهرين من هجمات بوسطن التي وقعت في أبريل/نيسان 2013، وهو يعتبر زعماء المسلمين في الولايات المتحدة متورطين مع الجماعات المتطرفة.
على خلاف بعض الانطباعات الخاطئة أن البيت الأبيض في عهد ترامب في حالة حرب مع "الدولة العميقة"، وهو مصطلح صاغه البروفسور بيتر دايل في كتابه "السياسة العميقة ومقتل جون كينيدي"، الصادر عام 1996. وفي مؤلفه الأخير، "الدولة الأمريكية العميقة"، يقر سكوت بأن الدولة العميقة "ليست بنية بل نظاما، من الصعب تعريفه، لكنه حقيقي وله سطوة، مثل النظام المناخي". ويشير الكاتب إسهان ثارور، في مقالة في صحيفة "واشنطن بوست"، إلى وجود "دولة عميقة" في واشنطن. فالصحفي اليساري والمدافع عن الشفافية، غلين غرينوالد، يعرّفُ الدولة العميقة بأنَّها "مجموعة فصائل" (فلنَقُلْ أجهزة الاستخبارات أو البنوك الكبيرة) تمارس السلطة مع قليلٍ من المساءلة العامة.
إن نظام الرئيس ترامب لا يعمل خارج إطار الدولة العميقة، بل إنه يقوم بتحريك بعض عناصرها للهيمنة عليها ولتقويتها من أجل مهمة جديدة، كما بيّن نافذ أحمد. فنظام ترامب لا يعمل على قلب المؤسسة، بل على تعزيزها وتقويتها لمواجهة أزمة أوسع تلوح أمام هذا النظام العميق العابر للحدود. فمن الخطأ أن نفترض أن صراع ترامب مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية يعني أنه بالضرورة على خلاف مع المجمع العسكري- الصناعي. على العكس، إن الأشخاص الذين عينهم ومستشاريه في مجال الدفاع، هم جزء لا يتجزأ من هذا المجمع.
يُعتبر المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، حسب جون وايتهد، دولة داخل أمريكا، وقد شاع استخدام المصطلح عقب الخطاب الأخير للرئيس الأمريكي دوايت ديفيد أيزنهار في 17 كانون الثاني/ يناير 1961 عندما حذّر أمريكا من خطر المجمّع الصناعي العسكري، وهو الاعتماد الثنائي الذي تطور خلال الحرب العالمية الثانية بين القاعدة الصناعية للولايات المتحدة وتركيبتها العسكرية. وبالتزامن مع الذكرى الخمسين لخطاب أيزنهاور الوداعي، نشر الصحفي الأمريكي جيمس ليدبيتر كتاب "نفوذ لا مبرر له: دوايت أيزنهاور والمجمع الصناعي العسكري"، ويُظهر فيه كيف أن الحكومة والمقاولين العسكريين واقتصاد الدولة الشامل أصبحوا في حالة تلازم. ويجد العديد من النقاد أن المجمع الصناعي العسكري أصبح بمجمله أخطبوطا قمعيا، مسؤولا عن نبذ حرية التعبير، والحقوق الاقتصادية والحرية الأكاديمية، وحق المعارضة، وحتى حق التنقل، وكذلك يجد البعض أن الخوف من الإرهاب أصبح مبررا جديدا للتقليل من حجم الحريات في الولايات المتحدة.
كان عالم الاجتماع الأمريكي الراديكالي رايت ميلز، قد تنبه مبكرا لطبيعة تحالف الحكم الأمريكي المعقد العسكري الاقتصادي السياسي؛ في كتابه الكلاسيكي "النخبة الحاكمة" الصادر عام 1956. إذ يشير إلى أن مفتاح فهم المخاوف الأمريكية يكمن في الإفراط في تنظيم المجتمع الأمريكي، وأن إنشاء "مجموعة النخبة المتشكلة من السلطات السياسية والعسكرية والاقتصادية والجامعية ووسائل الإعلام والنخب الفرعية في الولايات المتحدة الأمريكية"، إضافة إلى جماعات الضغط المترابطة "بتحالف على أساس المصالح والميتافيزيقيا العسكرية".
عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية هي أحد أهم ملامح نهج ترامب. فحسب مدير مجموعة الأزمات الدولية، روبرت مالي، فإن "شعار ترامب (أمريكا أولا) يعبر عن المحلية المسمومة والإقصائية، وعدم التسامح مع الرؤية العالمية الأوسع، خاصة أن لدى الولايات المتحدة 200 ألف جندي عامل في الخارج، فعسكرة السياسة الخارجية، تمثل استمرارا مثلما هو تراجع في الوقت ذاته. فترامب يعبر عن احترام للجنرالات وازدراء للدبلوماسيين. وقد حددت إدارة ترامب بأن أولوياتها الأخرى هي إعادة بناء الجيش الأمريكي، حيث تقلصت قواتنا البحرية من أكثر من 500 سفينة في سنة 1991 إلى 275 في سنة 2016. وأصبحت قواتنا الجوية تقريبا أصغر بثلث مما كان عليه في سنة 1991. والرئيس ترامب ملتزم بعكس هذا التوجه، وذلك لأنه يعلم أن هيمنتنا العسكرية ينبغي ألا تكون محل جدل".
خلاصة القول، إن عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية تقع في صلب المنظورات الامبراطورية الإمبريالية للولايات المتحدة، وتعريفها لذاتها وآخرها، وتصوراتها للحرب والسلم، ويمثل نهج ترامب تحولا فجا في سياق الاستمرارية. فأمريكا دولة حربية، والحرب جزء من كينونتها. فبحسب جوناثان تورلي أنه بعد أكثر من خمسين سنة، يجد الأمريكيون أنفسهم في حرب دائمة، فلا يمكنهم مثلا عدم التدخل في سوريا أو ليبيا أو العراق أو إيران. وبينما تشكل الحرب الدائمة خسائر دائمة من حيث الضحايا ومن حيث ميزانيات الإنفاق، إلا أنها تمثل أيضا أرباحا دائمة لمجمع ضخم من المؤسسات الحكومية والتجارية. وفي هذا السياق، يغذي المجمع الصناعي العسكري من قبل عدو غامض، غير مرئي، هو "الإرهابي". فقد أصر جورج بوش على تسمية جهود مكافحة الإرهاب "حربا"، كما هو ترامب اليوم. فــ"الحرب" لن تعطي الرئيس صلاحيات شبه مطلقة فقط، لكنها أيضا ستغذي الإنفاق على الصناعات العسكرية وأجهزة الأمن، وفي عالمنا العربي تستنسخ مسوخ ترامب ديمومة الحرب على "الإرهاب" كمقاولة للعراب الأمريكي، للبقاء في السلطة والاندماج في شبكة الحرب الكونية الأمريكية، فحيث يوجد عراب ثمة لصوص.