الصراع هو طبيعة العلاقات الدولية دائما، كعلم نظري وكتطبيق عملي في علاقات الكيانات البشرية الكبرى بعضها ببعض. والفرق بين منطقة جغرافية وأخرى في العالم هو وتيرة حدوث
الصراعات وكيفية إنهائها، أو بالأحرى منعها من الحدوث. ودولنا العربية ليست استثناء من هذه القاعدة. والمشكلة الكبرى في أزماتنا العربية الراهنة، ليست في وجود الصراع أو تضارب المصالح بين الدول، ولكن في كيفية إدارة هذه الصراعات، وأحيانا الاستثمار فيها.
يقال إن تجار السلاح، من شركات كبرى ودول، هي المستفيد من أي صراع ينشب في العالم، لذا تسعى لتأجيجه لحصد المكسب المريح من وراء دماء الضحايا. وهو كلام صحيح بشكل جزئي، أما الحقيقة فهي أن تجار السلاح ليسوا المستفيد الأكبر من نشوب النزاعات المسلحة في اليمن وسوريا وليبيا وغيرها من المناطق.. هناك دائرة استثمار في هذه النزاعات أوسع من ذلك؛ تراهن على هذا الصراع أو ذاك، على رأسها الدول التي تسعى لتوسيع نفوذها واقتطاع غنائم استراتيجية ومادية، مثل
إيران في سوريا والإمارات في اليمن.
يمكن أن نضع تركيا في هذه السلة، كدولة قومية مركزية كبيرة تسعى لمد نفوذها خارج حدودها لتأمين مصالحها بالقوى الناعمة الثقافية تارة، وبالقوى العسكرية الخشنة (كما تفعل في عفرين السورية) تارة أخرى. لكن الذي يجعلنا نستثني تركيا من هذه المجموعات هي أنها بالفعل قدمت الحل الإنساني والسياسي على الاستثمار في الحرب. وهذا أمر من الأمور البديهية والمستقر عليها في العلاقات الدولية،.. أي أنها احتضنت ملايين اللاجئين السوريين وشجعت أي حل للأزمة السورية منذ بدايتها، فضلا عن تقديم كل أوجه الدعم الإغاثي للمنكوبين قبل أن تتحرك دباباتها نحو الحدود السورية.
هذا لا يجعلنا في موقف المبرر الأعمى للسياسة التركية، لأن لنقدها موضعا آخر. أما المهم في هذا المقام فهو توضيح المقارنة السياسية بين الدول التي ترعى مصالحها عبر وسائل ناعمة وخشنة، وتلك التي ترعى مصالحها في الاستثمار في تأجيج الصراعات. والسؤال الأبرز هنا، لنوضح الفرق: كم لاجئا يمنيا احتضنت
الإمارات أو السعودية؟ أو كم مبادرة حوار أطلقتا لحل النزاع القائم في ليبيا؟ والإجابة واضحة لكل ذي عينين، وهي سيل من التصريحات السياسية كغطاء للاستثمار في هذه الصراعات، والحصول على أعلى مكاسب ممكنة بغض النظر عن التكلفة الإنسانية العالية.
مع مرور الوقت وتطور أنواع الأسلحة وأشكال
الحروب، حدث أيضا تقدم موازٍ في أساليب حل النزاعات والأزمات. وهناك درجات علمية تعطي في هذا الفرع من العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتدريبات عديدة في العديد من الدول، لعل أبرزها سويسرا التي لها باع طويل في هذا الأمر. المشكلة أن كل هذه الآليات غير مطروحة على طاولة النزاعات العربية المسلحة، سواء من الأنظمة أو القوى المعارضة لها.
إن كان من مصلحة القوى المناهضة للديمقراطية في
العالم العربي أن تؤجج الصراعات والنزاعات المسلحة، فليس من مصلحة القوى الثورية والمطالبة بالديمقراطية غض الطرف عن هذه الآليات. والأمر ليس معقودا دائما برغبات القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة. فدائما ما كان هناك تيار يميني من الصقور يسعى للصدام والاستفادة من الحروب، وتيار آخر يرفض ذلك ويفضل أساليب التفاهم والتعاون الاقتصادي لتأمين المصالح، والعلاقة تتأرجح بين هذا وذاك.
هناك عدم توازن عسكري بين الدول التي تعبث بالعالم العربي حاليا، وعلى رأسها إيران وروسيا وبعض الدول العربية الأخرى، وبين القوى المعارضة على اختلاف مشاربها. لذلك، من المهم جدا طرح آليات فض النزاع كجزء من الحل. ولا يوجد أي ضمان لنجاح آلية التفاوض المباشر أو المساعي الحميدة أو الوساطة.. إلخ، وذلك لأن تسوية النزاعات الدولية أقرب لعملية تحكيم رضائي يتم بين القوى المتكافئة في القوة، وأحيانا المتكافئة في الضعف. لكن هناك فارقا كبيرا بين وضع الدول المستثمرة في الدم العربي في موضع الرافض لتسويات سياسية وعسكرية، وبين أن يتم تركها تعيث فسادا على أمل أن تأتي معجزة من السماء لإيقافها؛ لأن النجاح في بعض المعارك الجزئية، ومنها معركة تقديم آليات فض النزاع والإصرار عليها، قد يفضي إلى النجاح الكامل في وقف عجلة هذه الحروب، أو على الأقل التخفيف من توابعها الكارثية على البشر والحجر.