قضايا وآراء

إيران تتجه شرقا

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

إيران بعد انتصار ثورتها عام 1979، رفعت شعار "لا شرقية لا غربية"، لأسباب أيديولوجية وسياسية وتاريخية، رافضة النموذج الليبرالي والإمبريالي الغربي والشيوعي الشرقي.

"لا شرقية" لا تعني رفض الشرق كله، وإنما القوى الشرقية الشيوعية بالدرجة الأولى، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، هذا الموقف الأيديولوجي كان مدفوعا بدوافع سياسية وتاريخية أيضا، حيث أن إيران لها تجربة تاريخية مريرة مع هذا الاتحاد، وقبله روسيا القيصرية والإمبراطورية الروسية على مدى قرون طويلة منذ العهد الصفوي، والتي تخللتها حروب وصراعات، ما ترك انطباعا سيئا عن روسيا في الذاكرة التاريخية الإيرانية، حيث أصبحت تعاديها أحيانا أكثر من عدائها للغرب.

بعد انهيار رمز الشرق الشيوعي أي الاتحاد السوفيتي عام 1991، خفّفت الأدبيات الثورية نبرة عدائها الأيديولوجي للشرق، وتبنى صانع القرار الإيراني نهجا براغماتيا تجاه القوى الشرقية رويدا رويدا، فتراجعت النظرة السلبية الأيديولوجية أو التاريخية تجاه تلك القوى مع بقاء هواجس وتحفظات طبعا، وهكذا اختفت "اللا شرقية" عمليا، واستبدلت بعلاقات الصداقة، والتعاون والشراكة مع مرور الوقت.

اليوم أصبح الشرق يحتل موقعا متميزا في السياسة الخارجية الإيرانية، تعكسه حقائق ماثلة على الأرض، أهمها التقارب غير المسبوق مع روسيا، وتنامي العلاقات مع كل من الصين والهند التي أعطتها زيارة الرئيس روحاني في 15 فبراير 2018 زخما كبيرا.

تلك الحقائق يعززها ويدعم استمراريتها تصريح ملفت للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية، الذي شدد بتاريخ 18 فبراير الماضي، على ضرورة تفضيل الشرق في العلاقات الخارجية عند حديثه عن أولويات السياسة الخارجية الإيرانية.

ثمة اعتبارات جغرافية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية دفعت الإيرانيين إلى التوجه نحو الشرق، أولا، جغرافيا، إيران نفسها بلد شرقي، والشرق حاضنتها الجغرافية، بالتالي هذا المحدد من الطبيعي أن يأخذ مكانه اللازم في رسم السياسة الخارجية الإيرانية، لاسيما بعد أن زالت مخاطر الجيرة، وتهديداتها، والتي تمثلت في تدخلات وحروب كانت تشنها روسيا الإمبراطورية أو القيصرية أو السوفيتية على إيران، أفقدت الأخيرة مساحات شاسعة من أراضيها ولاسيما في العهد القجري.

ثانيا، ثقافيا، إيران لها روابط ثقافية تاريخية قوية مع الشرق، على وجه التحديد مع شبه القارة الهندية، وباكستان وأفغانستان، والجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي.

ثالثا، اقتصاديا، الشرق يمثل سوقا كبيرة نظرا لعدد سكانه البالغ 4.5 مليار نسمة، مقارنة بالغرب الذي لا يتجاوز عدد سكانه 1.3 مليار، ثم أن معظم دول الشرق نامية، وهذا يسهل التعامل الاقتصادي معها على عكس الدول الغربية التي تأخذ العلاقات الاقتصادية معها أشكال التبعية والابتزاز السياسي أحيانا، كما أن وجود عملات متنوعة في الشرق من شأنه أن تغني إيران عن سلطة الدولار وآثارها. ومن جهة أخرى، القرب الجغرافي يصنع علاقات اقتصادية أقل كلفة وأكثر ربحية. كذلك مثل هذه العلاقات مع الشرق تحظى بدرجة أمان وأمن أكبر من الغرب، حيث عند فرض الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات على إيران، الشرق أقل التزاما بها والغرب ينفذها بحذافيرها. ومن ناحية أخرى، في ظل الغموض الذي يكتنف مصير الاتفاق النووي، الحكومة الإيرانية تحاول البحث عن مشترين جدد للنفط الإيراني، استعدادا لأي طارئ قد يفقدها الزبائن الأوروبيين.

كما أن إيران بسبب موقعها الجيواستراتيجي المتميز، كانت على مدى 1700 عاما ممرا استراتيجيا للشرق نحو الغرب على طريق الحرير، واليوم بعد المساعي المبذولة خلال الأعوام المنصرمة لإحياء هذا الطريق، تخطط طهران لتصبح قلب هذا الطريق.

رابعا، وهو الأهم، أنه بعد الحرب الباردة وتحول النظام العالمي إلى أحادي القطب، وما ترتب على ذلك من تصاعد الصراع مجددا بين قوى الشرق الرئيسة أي روسيا والصين وبين الغرب الأمريكي والأوروبي، وكذلك احتدام الصراع بين إيران والغرب، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، أخذ العداء المشترك للغرب يشكّل الجامع الاستراتيجي والإطار الناظم لعلاقات إيران مع الصين وروسيا.

الاتفاق النووي كان يمثل قفزة في العلاقات الإيرانية الغربية، وكانت تتأمل إيران أو بالأحرى حكومتها الإصلاحية أن يشكل هذا الاتفاق أرضية للانطلاق نحو علاقات أفضل مع الغرب، لكن سرعان ما تبدد هذا الأمل بعد تربع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المكتب البيضاوي. فشل الاتفاق في بناء جسور بين إيران والغرب، وعودة التوتر إلى العلاقات بينهما ولاسيما بين طهران وواشنطن، وكذلك احتدام الصراع مع حلفاء الأخيرة في المنطقة، دفع الحكومة إلى إعادة النظر في حساباتها وتنويع خياراتها بالتوجه نحو الشرق في موازاة السعي للمناورة في مساحات الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي الذي رغم اختلافها مع واشنطن في الموقف من الاتفاق النووي، تتفق معها في ملفات أخرى.

في علاقات إيران الشرقية، تحظى العلاقات مع القوى الرئيسة الثلاث "روسيا ـ الصين ـ الهند" بأهمية بالغة وقصوى، وبين تلك القوى أيضا العلاقات مع مسكو لها طابع خاص وأهميتها تفوق العلاقات مع القوتين الأخريين، أهمية العلاقات مع روسيا تنبع من بعدها السياسي هذه الأيام، بينما العلاقات مع الهند والصين يطغى عليها البعد الاقتصادي أكثر من السياسي.

العلاقات الإيرانية الروسية لم تشهد هي هذا القدر من التقارب والتعاون واشتراك المصالح على مدى تاريخها منذ خمسة قرون تقريبا بعد أن نشأت العلاقات الرسمية بين البلدين، إيران اليوم ترغب أكثر من أي وقت مضى في تجاوز إرث سلبيات الماضي البعيد والقريب والتحرك نحو بناء شبكة علاقات واسعة مع روسيا لمواجهة تحديات الصراع مع الغرب في سبيل مساعيها للتحول إلى القوة الإقليمية العظمى.

ومن جهة أخرى، روسيا بعد وصول الرئيس بوتين إلى السلطة عام 2000 تريد العودة إلى دورها وموقعها عالميا، انطلاقا من الشرق الأوسط. الخلاصة أن ما ترنو إليه الدولتان يواجه عقبة كأداء، هي الغرب، وسيما الولايات المتحدة الأمريكية.

صراع الطرفين مع الغرب شكّل دافعا أساسيا نقل العلاقات الثنائية إلى الشراكة والتعاون غير المسبوقين في ملفات إقليمية كثيرة، وهي لا تقتصر على الملف السوري كما يظن البعض، وإنما تنسحب إلى أفغانستان، واليمن وأسيا الوسطى وملفات أخرى، إلى جانب ذلك، لا يمكن أن نغفل خلافات تطرأ بين الطرفين في المواقف ووجهات النظر أو نستهين بها، أما هي لا تؤثر في الوقت الحاضر على الإطار العام الناظم للتعاون الثنائي بينهما، مادام المصلحة المشتركة الناتجة عن الصراع مع الغرب قائمة ولم تزل، اليوم الدولتان بحاجة ماسة أكثر من قبل إلى بعضهما البعض في مواجهة التحدي الغربي بشكل عام، والأمريكي بشكل خاص، وليس صحيحا القول إن إيران وحدها هي التي تحتاج إلى روسيا.

ما دلّ مؤخرا على المنحى التصاعدي للتقارب الإيراني الروسي، هو موقف مسكو في الأمم المتحدة في اجتماعها الخاص باليمن يوم الاثنين الموافق 26 فبراير الماضي، واستخدام حق الفيتو ضد مشروع القرار البريطاني، احتجاجا على تضمينه عبارة تدين إيران بسبب إرسال السلاح إلى الحوثيين. هذه هي المرة الأولى التي تستخدم مسكو حق الفيتو دعما لإيران، بينما هي صوّتت منذ 2006 إلى 2010 لصالح سبعة قرارات لمجلس الأمن ضد البرنامج النووي الإيراني.

إيران أدركت سريعا أهمية هذا الموقف الروسي ودلالاته القوية، فشكرها الرئيس حسن روحاني على ذلك، واعتبره علي أكبر ولايتي مستشار القائد للشؤون الدولية دليلا على تنامي العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.

فضلا عن ذلك، لعلّ الرسالة الأخرى، وهي ليست أقل أهمية من الأولى، أن مسكو أرادت من خلال استخدام الفيتو ضد مشروع قرار يدين إيران إظهار قوتها للغرب والتأكيد على ولوج النظام العالمي في مرحلة جديدة لا يمكن تمرير أي قرار دون توافق وثمن مسبقين معها.

عموما، رغم ما سبق، من المبكر وصف العلاقات الروسية الإيرانية بالتحالف الاستراتيجي، لأن التحالف له مواصفاته، لم ترتق إليها هذه العلاقات إلى الآن، والتوجه الإيراني نحو الشرق هو خيار الضرورة في هذا التوقيت، بعد تضاءل فرص التقارب مع أوروبا، وكذلك تصاعد الصراع مع واشنطن. بالتالي فإن نجاح إيران في بناء تحالف قوي وشبكة مصالح استراتيجية مع القوى الشرقية الرئيسة يتوقف على مدى استعداد وقدرة هذه القوى في تجاوز العقبة الأمريكية الضاغطة.

كما أن آفاق علاقات إيران مع تلك القوى الشرقية، ترسمها وجهة علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما مع كل من روسيا والصين، فبقدر ما تتأزم تلك العلاقات، تتعاظم فرص التقارب مع إيران، وبقدر ما تنفرج، تتضاءل تلك الفرص.

هذا يعني أن الشرق لا يملك حرية تامة في رسم شكل علاقاتها، وهو يتأثر بالفاعل الأمريكي والغربي بشكل أو آخر، فعلى سبيل المثال، تشابك المصالح الاقتصادية الصينية والهندية، مع واشنطن يجعل من الصعب بل المستحيل أحيانا، أن تضحي هاتان القوتان بتلك المصالح في سبيل الحفاظ على علاقاتهما مع طهران، أيا كان حجم امتعاضهما، وخاصة بكين من السياسات الأمريكية وتدخلاتها في بحر الصين الجنوبي، والسياسات المالية العالمية. كما لا ينبغي أن ننسى أن إيران تواجه التحدين الإسرائيلي والسعودي في علاقاتها مع الشرق.

أما روسيا تختلف عن بقية القوى الشرقية، فهي بينما تحاول أن تظهر تمسكها بسياسة التوازن في العلاقات مع القوى الشرق أوسطية المتحاربة معا، لكنها هذه السياسة مائلة إلى إيران لحاجة روسية بها في مواجهة الغرب في سبيل استعادة دورها ومكانتها العالميتين. هذه الحاجة تزداد، كلما يتزايد التوتر بين مسكو وواشنطن وبقية العواصم الغربية، أما ما يقلق إيران ويشكل هاجسا كبيرا لها، هو اليوم الذي يأتي ويتوصل الجانبان الأمريكي والروسي إلى "الصفقة الكبرى" التي على الأغلب ستدفع روسيا جزءا من ثمنها من جيب إيران الإقليمي مقابل تحقيقها. حتى الآن لا تبدو الأوضاع تتجه نحو هذا المسار، أما ذلك ليس مستبعدا بشكل نهائي، المستبعد أيضا أن تضحي روسيا بكل علاقاتها مع إيران في سبيل الوصول إلى تلك الصفقة.

أغلب الظن أن روسيا لا ترغب في أن تصبح إيران قوة إقليمية عظمى، لكنها في الوقت نفسه ترى أن إيران الضعيفة أيضا ليست في مصلحتها، لعلمها أن البديل عن النظام الإيراني الحالي هو نظام موال للغرب، ما يشكّل تهديدا وجوديا لموسكو، لأن ذلك يقرّب الخطر الأمريكي من حدودها ومنطقة نفوذها في أسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، بالتالي هي أكثر من قبل معنية بتعزيز أواصر التقارب والتفاهم مع الجمهورية الإسلامية في إيران.

وأخيرا، إيران ممر الأحداث"، كما وصفها المؤرخ الإيراني زرين‌ كوب، ليس سهلا التخلي عنها وتجاهل دورها وموقعها في الحسابات الإقليمية والدولية.

0
التعليقات (0)