ثمة فوائد مبدئية للاهتمام المتنامي في الساحة
الفلسطينية بمسيرة العودة الكبرى، هذه الفوائد متحققة حتى قبل الخطوة الثورية الحاسمة المتمثلة في اجتياز
اللاجئين السلك الفاصل وعودتهم الفعلية إلى ديارهم، فالمسار والأحداث التمهيدية ليسوا مجرد وقت ضائع نقطعه لبلوغ نقطة النهاية، بل هي مطلوبة لذاتها من أجل تشكيل الوعي العام على نحو أكثر أخلاقيةً وفعاليةً.
تفطن الفلسطينيين إلى مسيرة العودة
واعتماده أسلوباً نضالياً جديداً متنامياً ومتراكماً، وليس فعاليةً موسميةً أو مهرجاناً لإحياء ذكرى، يعني أن الفلسطينيين صاروا أكثر إيماناً بالقوة الناعمة التي في أيديهم، لكنهم لم يحسنوا استغلالها طوال العقود الماضية. فالفلسطينيون أولاً يمتلكون عدالة القضية، لكنهم لم يهتموا بالقدر الكافي بإظهار عدالة قضيتهم واستثمار الفرق الأخلاقي بين شعب يناضل من أجل حريته والبقاء في أرضه وبين قوة احتلالية استيطانية تمارس التهجير والقتل والتمييز العنصري، في تحقيق إنجاز وطني ونزع الشرعية عن دولة الاحتلال، وربما كان مرد هذا الزهد الفلسطيني في استثمار القوة الأخلاقية هو شيوع ثقافة أن العالم لا يحترم سوى الأقوياء أو أن العالم متآمر علينا، أو أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
هذه المسلمات اهتزت في ميدان التجربة، فإذا كان النظام السياسي الرسمي في العالم لا يحترم إلا الأقوياء، فإن الفطرة الإنسانية لا تجتمع على باطل، ووجود صورة أخلاقية واضحة للنضال الفلسطيني، تتمثل في مشهد الشعب المدافع عن حقوقه في مواجهة قوة متغطرسة تمارس الاغتصاب الفج والقتل والتهجير، يستثير حركة تضامن عالمية تصل إلى منظمات المجتمع المدني وتمثل قوة ضغط سياسية على الحكومات، وتحرم دولة الاحتلال من صورة الدولة الطبيعية، وهو ما سيضر بالتأكيد بمصالح الاحتلال وعلاقاته. تكريس الصورة الأخلاقية للنضال الفلسطيني يقتضي مواصلة تذكير العالم بحقيقة المشكلة عبر أنشطة جماهيرية وإعلامية سلمية إبداعية تصل إلى كل المنابر لتمثل ضغطاً متواصلاً على مشروع الاحتلال.
أما القول إن العالم متآمر علينا فهو وصفة لليأس القاتل، فالعالم ليس إدارة ترامب ولا الحكومات العنصرية وحسب، إنما في العالم دول كثيرة لا تجد نفسها مضطرةً للانحياز إلى دولة الاحتلال، وسيكون من اليسير تغيير مواقفها لصالح فلسطين بقليل من الجهد في التواصل مع شعوبها. وعدا الحكومات، هناك شبكة مدنية من محبي العدالة يستطيعون أن يعززوا عزلة دولة الاحتلال ومحاصرتها في الوقت الذي يبدع فيه الفلسطينيون في نضالهم السلمي، ويظهرون للعالم عدالة قضيتهم وبشاعة الاحتلال.
وكذلك، فإن مقولة ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة قد اهتزت بفعل التجربة التاريخية الفلسطينية مع التسليم المبدئي بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بممارسة كل أدوات المقاومة. فمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد حرب دموية مدمرة في لبنان، ذهبت إلى مسار مدريد وأوسلو، والفلسطينيون بعد تجربة الانتفاضة الثانية في الضفة وجدوا أنفسهم في مواجهة الجدار العازل، وقُوضت البنية التحتية للعمل العسكري المنظم فيها. أما قطاع غزة، فإن المقاومة العسكرية مقيدة فيه وعاجزة عن الاستثمار السياسي لإمكانياتها، وهو ما يعزز توجه الوعي العام الفلسطيني إلى أشكال جديدة من النضال.
تستند فلسفة "
مسيرات العودة" إلى خوض الفلسطينيين معركةً في المربع الذي يتفوقون فيه واستثمار عنصر قوتهم وعنصر ضعف عدوهم. فدولة الاحتلال مصممة لمواجهة الجيوش، وهي قادرة على خوض حروب تدميرية بترسانة الأسلحة الهائلة التي تغذيها منذ نشأتها، لكن هذه الدولة غير مصممة على مواجهة خيار الزحوف البشرية السلمية، في ضوء هشاشة حدودها وإحاطتها بأصحاب الحق الأصليين من كل جانب، وفي ضوء التفوق الديموغرافي للفلسطينيين، وهو العامل الذي يمثل رعباً حقيقياً في التفكير
الإسرائيلي.
خيار مسيرات العودة السلمية يمثل تحدياً لأسس الدعاية الصهيونية التي تسوق نفسها في العالم بأنها دولة ديمقراطية، والدول الديمقراطية لا تقتل المدنيين العزل، فكيف إذا أضيف إلى كونهم مدنيين عزلاً؛ أنهم يستندون في تظاهرهم إلى قانون دولي، وهو قانون 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلداتهم وقراهم في أقرب وقت ممكن. كذلك، فإن طبيعة هذه التظاهرات السلمية سيحيد بقدر كبير ترسانة الأسلحة الهائلة التي تمتلكها دولة الاحتلال، ليس بمعنى أن دولة الاحتلال لن تستعمل القوة في مواجهة الحشود السلمية، بل لأنها لن تستطيع التعامل بنفس قواعد الاشتباك في الحروب مع هذه السيول البشرية، وخيار القوة قد يكون مجدياً في حالة التعامل مع خمسة آلاف متظاهر، لكن تأثيره سيتراجع كثيراً حين يكون هناك 200 ألف متظاهر من أكثر من جبهة، خاصةً مع الروح الفدائية العالية التي يتسم بها الفلسطينيون وعدم مبالاتهم بالتضحية في ميدان المعركة. وقد قدم الفلسطينيون آلاف الضحايا في حروب لم يجنوا منها ثمرةً سياسيةً، فكيف إذا رأوا جمال الوطن الذي يحلمون بالعودة إليه منذ 70 عاما على بعد مئات الأمتار؟ هل سيوقفهم الرصاص عن الانطلاق نحوه؟ إن جدوى القوة الإسرائيلية في مواجهة مسيرات العودة موضع شك كبير.
مسيرات العودة تمتلك الوضوح الأخلاقي الذي يعزز فرص نجاحها، فهي تدعو إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم بطريقة سلمية، ولا تتبنى دعاية إلقاء الإسرائيليين في البحر، ورفض دولة الاحتلال لهذه المسيرات لن يكون مبنياً على أسس مقنعة، بل هو رفض عنصري يهدف إلى ضمان تفوق العنصر اليهودي في دولة الاحتلال، وهو موقف معاكس لحركة التاريخ.. فالعالم اليوم لم يعد متفهماً لأنظمة دول على غرار الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، بل غدت قيم المواطنة والحقوق المتساوية هي السائدة، وبذلك فإن مسيرات العودة تجر دولة الاحتلال إلى مواجهة حرجة، وهي مواجهة بين قيم إنسانية تنشد العدالة والحقوق، وبين قيم تمارس التفريق العنصري وجرائم الإبادة الجماعية.
تستند مسيرات العودة إلى فلسفة الحقوق وليس فلسفة التحرير، فالتحرير يعني إزالة إسرائيل من الوجود وإلقاء مواطنيها في البحر، أما النضال الحقوقي فهو على غرار ما فعله نلسون مانديلا، يهدف إلى إسقاط المشروع العنصري الاستيطاني وتحقيق العودة وتقرير المصير للفلسطينيين المضطهدين، ثم لا ضير بعد ذلك في بقاء الإسرائيليين كأفراد أو رحيلهم.
خيار التحرير فضلاً عن أنه غير متاح في اللحظة التاريخية الراهنة بحكم اختلال موازين القوى، فهو أيضاً من ناحية مبدئية ليس ضرورياً ضرورةً ملحةً، ذلك أن الأرض تتسع للجميع، والبشر اليوم كسروا الحواجز القومية واختلطت الأمم والثقافات، فتجد في بلاد الغرب ملايين العرب المتجنسين ويحظون بكامل حقوق المواطنة فيها. وبذات المنطق، فما الذي يمنع من بقاء الإسرائيليين في أرض ولدت فيها أجيال جديدة منهم، في الوقت الذي سيظل فيه فلسطينيون في البلاد الغربية بعد أن ارتبطت مصالحهم ومصالح أبنائهم بتلك البلاد الجديدة؟
إن المشكلة لا تتمثل في بقاء الإسرائيلي أو رحيله، بل تتمثل في إسقاط النظام الصهيوني العنصري الذي يضطهد الفلسطينيين، ويسرق ثرواتهم ويمنعهم من الحياة الكريمة والعودة إلى ديارهم وتقرير مصيرهم. فإذا نال الفلسطينيون حقوقهم فلا ضير من العيش في دولة ديمقراطية واحدة يمتلك فيها الجميع ذات الحقوق، كما حدث في جنوب أفريقيا بعد إسقاط نظام الفصل العنصري، وحينها سيستفيد الفلسطينيون من النظام السياسي في إسرائيل وسيناضلون من الداخل سلمياً، كما يفعل الآن أحمد الطيبي ورائد صلاح، وسينتفعون من التقدم العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي.
إن خيار دولة ديمقراطية واحدة للجميع، وهو الخيار الذي تستند إليه مسيرات العودة فلسفياً، ليس في مصلحة الفلسطينيين وحسب، بل في مصلحة المجتمع الإسرائيلي أيضاً على المدى البعيد؛ لأنه سيحرره من العنصرية ومن الخوف وسيضمن مستقبلاً آمناً ومستقراً للأجيال القادمة، بدلاً من استمرار إسرائيل في حبس نفسها بين جدران عازلة.
هذه هي الطريق الأقل تكلفةً لقوم يعقلون..