هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا حديث في تونس اليوم إلا عن الجريمة البشعة التي تعرّض لها أطفال أبرياء يعانون من مرض التوحد في أحد المراكز المخصصة لرعايتهم وتلبية حاجياتهم. الأطفال صغار السن لا يملكون القدرة على الدفاع عن أنفسهم ولا استيعاب التعذيب والضرب الذي يتعرضون له وهو ما يجعل منهم عزلا من كل حماية وفريسة سهلة لكل من يريد بهم سوءا.
فالصور التي شاهدها الملايين في تونس وخارجها وتحولت إلى قضية رأي عام لا تزال تتفاعل بعد أن فشلت كل المحاولات في خنق القضية وفي إخماد نارها عبر وسائل الإعلام التابعة لقوى الدولة العميقة.
الجريمة البشعة تسمح بإبداء الملاحظات الأولية التالية:
إن هذه الجريمة هي واحدة من مئات الجرائم إن لم نقل الآلاف التي ترتكب يوميا ـ نعم يوميا ـ في حق الأبرياء في تونس سواء كانوا أطفالا أو بالغين. وليست الرجة التي أحدثتها هذه الواقعة إلا بسبب خروجها إلى الإعلام وبسبب المشاهد المصورة عن التعذيب الوحشي الممنهج في حق أطفال أبرياء. أي أن الجريمة كانت ستتواصل يوميا لولا أنها خرجت إلى الإعلام.
تتمثل الملاحظة الثانية في صمت الدولة عن هذه الجرائم وذلك من ناحيتين: تتمثل الأولي في غياب كل أنواع الرقابة الرسمية على هذه القطاعات التربوية الحساسة حيث يُترك الأطفال فريسة سائغة أمام جلاديهم في كثير من الأحيان وذلك في وقت يشكل فيه العنف المدرسي والتربوي ظاهرة صارخة.
أما الناحية الثانية فتتمثل في تأخر تدخل السلطات الرسمية أمام هذه الجريمة ولولا ردود الفعل الشعبية الساخطة لكانت الجريمة لا تزال تحدث في نفس المركز كل يوم.
ثالث الملاحظات إنما تتمثل في تواطؤ أذرع الدولة العميقة مع الجريمة ومقترفيها وذلك برفض بث الفيديو المصاحب للجريمة من أجل امتصاص الغضب الشعبي خاصة وأن صاحبة المركز المذكور الذي شبهته احدى العاملات "بغوانتنامو " متهمة بأنها على علاقات وطيدة مع شبكات النظام كما تذكر مواقع التواصل الاجتماعي.
بل إن بعض الأحزاب اليسارية المعادية للهوية العربية الإسلامية وبعض الأحزاب القومية الفاشية سارعت باستثمار الحدث واللعب على التناقضات السياسية من أجل تحقيق مكاسب حزبية عاجلة بسبب قرب موعد الانتخابات البلدية.
إن جملة الملاحظات السابقة المرتبطة بالحادثة الأليمة التي عرفتها تونس خلال الأيام الماضية إنما تكشف واقعا أكثر إيلاما وهو واقع لا تمثل فيه الحادثة الأخير رغم بشاعتها إلا رأس جبل الجليد الذي يخفي ما يخفيه من الجرائم والبشاعات التي لا توصف.
منذ الثورة ومنذ انفتاح فضاء الإعلامي البديل ونقصد به مواقع التواصل الاجتماعي صُدم أهل تونس بجرائم تفوق الخيال في توحشها وبشاعتها وخاصة تلك التي تعلقت باغتصاب الأطفال وذبحهم وتعذيبهم في أكثر من مناسبة ( خاصة جريمة الملاسين شهر ماي 2016 ). هاته الجرائم التي حفل بها الفضاء الافتراضي بسبب تكتم السلط الرسمية عنها عادة هو الذي يدفع نحو اعتبار النظام شريكا في الجريمة وإن بشكل غير مباشر.
لا يكاد يمر أسبوع دون أن يصعق التونسيون بجريمة تضرب الأطفال. فمن الانتحار إلى الاغتصاب إلى التعذيب وصولا إلى الاتجار بالأعضاء أو رمي الرضع حديثي الولادة في الشوارع وعلى قارعة الطريق بعد عمليات إجهاض قسري بسبب انتشار الزنا خارج إطار الزواج بتشجيع من الدولة ومنظومتها الثقافية والإعلامية.
لن نتحدث هنا عما يحدث داخل جدران المدارس من عنف ومن تحطيم لمستقبل أجيال وأجيال بسبب انهيار المنظومات التعليمية وبسبب تشجيع الدولة على تدمير التعليم العمومي لأجل عصابات التعليم الخاص التي ترتبط بقوى خارجية ورؤوس أموال مشبوهة داخل تونس.
لا يقتصر تدمير القطاع الخاص وبيعه لشركات وقوى أجنبية على التعليم بل يشمل كل مناحي الحياة وخاصة قطاعتها الحساسة مثل النقل والصحة خاصة حيث يظهر جليا أن تدمير المؤسسات الوطنية إجراء ممنهج يتم برعاية الدولة التي تساهم بشكل كبير في دعم القوى المالية التي تعمل على الاستحواذ على المجال العمومي وتحويله لصالحها.
لكن الكارثة الأخطر من كل هذه الجرائم هي آثارها القريبة والبعيدة على نفسية الشباب والمراهقين بما هم الأكثر عرضة لمشاهد العنف. إن السكوت عن هذه الجرائم وعدم إحداث آليات رقابية صارمة تحافظ على السلامة الجسدية والنفسية للأطفال خاصة إنما تمثل مشاركة في الجريمة وتشجيعا لها.
فهؤلاء الأطفال الذين يتعرضون للعنف سيتحولون عاجلا إلى شحنات طليقة من العنف المضاد ومن الرغبة في الانتقام وهو ما يجعل منهم فريسة سهلة لكل التيارات المتطرفة والقوى الظلامية يمينا ويسارا.
إن عدم تطبيق القانون بكل صرامة في مثل هذه الجرائم البشعة يجعل من منسوب العنف الاجتماعي مادة سائلة ومتحولة تخترق الطبقات الأكثر فقرا وهشاشة لتتحول إلى قنابل موقوتة تغذي الظاهرة الإرهابية وتمدها بالحياة.
إن الحرب العالمية على الإرهاب التي تحولت إلى حرب دولية تستهدف المسلمين دون غيرهم من أجل السيطرة على ثرواتهم وأرضهم منذ أحداث برجي التجارة العالمية صارت اليوم حربا إقليمية وانخرطت فيها الدول العربية جميعها طوعا أو كراهية.
في تونس ومنذ زمن الطاغية بن علي دُشنت الحرب على الإرهاب واستعملها الرئيس الهارب من أجل تصفية خصومه وقتل كل نفَس حر في البلاد أما بعد الثورة فقد تسلل سرطان الإرهاب إلى الداخل من أجل ضرب تجربتها الديمقراطية الناشئة ومن أجل تقويض حلم شعبها في الحرية والانعتاق.
لكن ثبت اليوم أن أخطر مظاهر الإرهاب هو ذاك الذي تمارسه الدولة بصمتها وتمارسه المؤسسات والمركز المنعتقة من كل رقابة أو قانون بتكالبها على الضعفاء في غياب تام لكل محاسبة أو عقاب أو تطبيق للقانون الصريح في مثل هذه الجرائم. هذا القفز على القانون والتساهل المقصود مع الجريمة هو الذي سيدفع إلى سيطرة قانون الغاب وإلى تجاوز السلطة التي لم تعد ضامنا لسلامة الأطفال فما بالك بغيرهم.
إن القضاء على الإرهاب لا يتم إلا بالقضاء على جذوره الممثلة بالعنف الذي يخترق كل الطبقات الاجتماعية اليوم وليست الشعارات الجوفاء الذي تطلقها الدولة من حين إلى آخر إلا ذرا للرماد في العيون لأن الحل الأمني ليس إلا حلا جزئيا يكشف عن الفشل في استئصال الظاهرة ومنعها من الانتشار.