ترجع أهمية بحث وحل إشكالية تعارض العقل والنقل لكون كل واحد منهما
طريقا من طرق المعرفة في الفكر الإسلامي، ما أثار أسئلة كثيرة ـ قديما وحديثا ـ حول
تحديد مجال ونطاق عملهما، وطبيعة العلاقة الجدلية بينهما، وطرق وآليات رفع التعارض
بين ما تقتضيه دلائلهما.
وتشير مراجع العقائد الإسلامية إلى أن نشأة إشكالية التعارض بين العقل
والنقل كانت بعد انفتاح المسلمين على الثقافات الأخرى، وترجمة كتب المنطق والفلسفة
اليونانية، وتأثر بعض مفكري المسلمين وعلمائهم بتلك الفلسفة بتعظيمها للعقل وجعله معيار
قبول الأشياء وردها، فما عارضه من الشريعة يجب تأويله بما يتوافق مع دلائل العقل طبقا
للمقرر في تلك الفلسفة.
وتذكر المراجع ذاتها أن الجدل حول هذه القضية أشد ما كان في مباحث العقيدة
الإسلامية، خاصة ما يتعلق منها بالصفات الإلهية، بين اتجاه يقرر وجوب تقديم الدلائل
العقلية القطعية على ظواهر النصوص المثبتة للصفات على حقيقتها، فما كان من تلك النصوص
صحيحا ثابتا يجب تأويله أو تفويض علمه إلى الله، واتجاه آخر يرى أن ما ورد في نصوص
النقل يجب إثباته لله على ما يليق به من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل.
وبمطالعة كتب العقائد لمختلف الاتجاهات الدينية الإسلامية، كالأشاعرة
والمعتزلة والحنابلة (السلفية) يظهر مدى حضور تلك القضية في تناول المباحث العقائدية،
وقوة تأثيرها في إنتاج الآراء والأقوال، باعتبارها أصلا كليا يتم إعماله في عملية الفهم
والاستدلال والاستنباط، طبقا للمصادر إياها.
وفي بحث طرق إزالة التعارض بينهما، تراوحت أقوال الاتجاهات الدينية بين
من يرى تقديم النقل على العقل مطلقا، ومن يعاكسه بتقديم العقل على النقل مطلقا، ومن
شق طريقا بتحديد القطعي منهما وتقديمه على الآخر بصفته قطعيا، وليس باعتبار جنسه سواء
كان عقليا أم نقليا بحسب باحثين.
ووفقا للداعية والباحث الشرعي الأردني، إحسان العتيبي، فإنه ما
"لم يتم تدقيق النظر في الجملة (تعارض العقل والنقل)، وتحقيق ألفاظها، فستظل المعركة
قائمة بين مختلف الأطراف".
وفي محاولة منه لتضييق هوة الخلافات والمناقشات بين تلك الأطراف حول
القضية، رأى العتيبي أنه "لا بد ابتداء من تحقيق القول في تعريف "النقل"
و"العقل"، ووضع شروط لغوية وعلمية لذلك".
واقترح العتيبي تعريف النقل بأنه "صحيح المنقول"، وتعريف
العقل بأنه "صريح المعقول"، والانطلاق من قواعد كل من الصحيح والصريح في
النقاش وتحقيق مواضع الاختلاف ومجالاتها".
وأضاف العتيبي لـ"عربي21": "ومن القواعد التي تعين الأطراف
المختلفة على تضييق هوة الخلاف بينها، وتجعل اجتماعها أكثر سهولة ويسرا: التذكير الدائم
بأن عقول الناس تتفاوت في الفهم، وأن كل زمان وبيئة يدرك أهلهما بعقولهم ما لم يدركه
من سبقهم ولا من يأتي بعدهم، وأن ما ينكره عقل البعض قد يستوعبه ويقبله عقل الآخرين".
وتابع حديثه: "وفي شرعنا المطهر، لا يخاطب بالأحكام ولا يكلف بها
إلا "العاقل"، ومن فقد عقله سقط عنه التكليف، ولا خطاب معه"، إذ إن
العقل هو مناط التكليف.
وبيّن الباحث الشرعي أن "الإنسان العاقل يعلم أنه مخاطب بوحي من
الله تعالى، خالق العقل ومشرع الشرع، لذا كان منهج الأوائل من الصحابة والتابعين ومن
بعدهم من أهل السنة أنهم يقدمون الرواية على الرأي، حيث يبدؤون بالشرع ثم يخضعون العقل
له، لأنهم يرون أن العقل السليم يتفق مع نصوص الشرع الصحيحة، ولذلك لا تصح معارضة الشرع
بالعقل ولا تقديمه عليه".
وفي السياق ذاته، رأى الأكاديمي الشرعي السعودي، ناصر بن سعيد الغامدي، أنه "لا تعارض في الواقع ـ من حيث الأصل ـ بين قطعيين من العقل والنقل، لأن الذي
خلق العقل هو الذي أنزل النقل، فإن حصل تعارض فإنما هو من جهة الناظر في الأدلة".
وتابع الغامدي حديثه لـ"عربي21": "فقد يتوهم الناظر
في الأدلة وجود القطع في أحد الجانبين والأمر بخلافه، أو قد يقلد غيره، أو تشتبه عليه
الأدلة ثبوتا أو دلالة، فيقع الخطأ من جهة نظره، وليس من جهة الأدلة القطعية ذاتها
سواء أكانت عقلية أم نقلية".
وتتوافق تلك الخلاصة التي ذكرها الغامدي مع تقريرات ابن تيمية في كتابه
الشهير "درء تعارض العقل والنقل"، التي منها قوله "فإن وُجد ما يوهم
التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحا ليس فيه دلالة
صحيحة على المدعى، وإما أن يكون العقل فاسدا بفساد مقدماته".
يُشار في هذا السياق إلى أن ابن تيمية أراد في كتابه المشار إليه نقض
القانون الكلي للتأويل عند الأشاعرة، طبقا لما قرره الإمام الرازي في كتابه "أساس
التقديس"، الذي اتهم على خلفيته بتقديم العقل على النقل مطلقا بحسب باحثين شرعيين.
من جهته رأى الأكاديمي الشرعي السوري، علي محمد زينو أن "وقوع
الاختلاف بين العقل والنقل حقيقة لا تحتاج برهانا، لكن إيصال هذا الاختلاف إلى درجة
التعارض مضخم جدا، وليس كل اختلاف تعارضا".
وأشار زينو إلى ضرورة تحرير معنى كل من "العقل" و"النقل"،
الذي ما يتم عادة تحاشيه وتجنبه في أكثر حالات الكلام عن التعارض المزعوم بينهما"، على حد قوله.
وتابع زينو حديثه لـ"عربي21" معرفا المراد بالنقل المعول
عليه بأنه النقل المقطوع بثبوته وصحته، والمقطوع كذلك بدلالته، أما العقل المعتبر فهو
العقل الذي يتفق عليه جميع العقلاء الأسوياء".
وأكَّد زينو أهمية "المعرفة العميقة بعلوم العربية المختلفة،
وعلوم البيان والدلالة، وطرق الترجيح للحصول على الفهم الصحيح للنقل، والحكيم السليم
للعقل"، مشددا على "ضرورة التثبت من وجود دعاوى الاختلاف والتعارض فعلا،
وألا تكون أوهاما في مخيلات زاعيمها".
ونفى الأكاديمي السوري زينو في رده على سؤال حول إمكانية وقوع التعارض
بين النقل والعقل وقوع التعارض بين نقل صحيح وعقل صريح، معللا ذلك بأن "مرد كليهما
إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يختلف كل من حكم الله وخلقه وسننه في كونه".
ولفت زينو إلى أن القانون الثابت الذي ينبغي إعماله دائما هو التحقق
من صحة النقل أولا، ومن ثم التحقق من دلالته، ثم التحقق من عقلية العقل، وألا تُقحم
فيه الجهالات والأهواء، ثم تُسمى عقلا تمويها ومخادعة، ومتى أمكن الجمع بين النقل الصحيح
الصريح، والعقل الصريح بأي وجه من وجوهه وجب المصير إليه".
وختم زينو كلامه بالتأكيد أن "الجمع متاح دائما، وهو مطرد
لا يتخلف أبدا إلا إذا تخلفت صحة النقل، أو اشتبهت دلالته، أو ادُّعي ما ليس بعقل عقلا،
وهذا هو الواقع في جميع حالات التعارض والاختلاف".
تجدر الإشارة إلى أن الجدل حول طبيعة العلاقة بين العقل والنقل لا يتوقف
أبدا، خاصة حينما تعلو أصوات الثقافات المتغلبة في تجلياتها الحداثية، التي أقصت الوحي
الإلهي عن واقع الحياة وأحلت محله عقل الإنسان، فألَّهت العقل وجعلته معيار قبول الأشياء
وردها، ما أرخى بظلاله على منطق التفكير الديني في بعض الأوساط، لتأويل عقائد الدين
وأحكامه كي تتوافق مع العقلانية المقررة في تلك الثقافات.
10
شارك
التعليقات (10)
كسال يوسف
الإثنين، 07-03-202204:38 ص
الفلسفة أكره مادة على وجه الأرض ولاكن مدريسونها أجملهم ??????
بن زينب عدة
السبت، 26-12-202012:06 م
ممكن تلخيص
صورية
الأحد، 22-03-202006:12 م
جاتني صعيبة فلسفة
اسماعيل
الجمعة، 28-02-202009:01 م
موضوع جمييل. ممتاز. أعجبني تحليل زينو بالتحديد. من وجهة نظري الانسان ذو العقل (القلب) السليم يهتدي إلى الإيمان بالله و شرعه، و من تم يسلم عقله (قلبه) لما ثبت صحيحا صريحا من دين الله. أما الذين يعطون عقولهم لكل نقل ديني و يطبقونه في حياتهم دون التثبت من صحة و قطعية الدليل فالدين بريئ منهم.