فُتِحَتْ آفاق الحياة في مثل هذه الأيام من عام 2011م، إنه كانون الثاني/ يناير، شهر لم تر
مصر له مثيلا منذ عشرات السنين.
عادت الحياة إلى شرايين البلاد، أصبحت هناك أحزاب، أنشطة، صحف، قنوات، مجتمع مدني، حركات طلابية، برلمان، مرشحون رئاسيون... لقد أصبحت مصر دولة بعد أن كانت تكية يملكها الرئيس اللص المخلوع، ويخطط لتوريثها لابنه الفسل الفاسد.
حين بدأت المناظرة الرئاسية بين الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والسيد عمرو موسى في انتخابات الرئاسة عام 2012... كانت شوارع الرياض والرباط فارغة من المارة ومن السيارات، برغم أن المشهد مصري محلي، ولكن هيهات... إنها مصر، ذلك البلد الذي يملك خزائن الماضي، ويرسم خرائط المستقبل.
لا شيء في مصر بعد يناير 2011 بقي كما هو، كل شيء تغير، وبدأت القيم تنتصر من جديد، أصبح الخير خيرا، والشر شرا...
لم ينتصر الخير إلا في جولات قليلة. وصحيح أن الشر ظلت له أغلبية لا تتراجع، ولكن أصبح الخير يملك من الشجاعة ما يمكنه من أن يقول للشر "استح"، وأصبح الشر برغم كثرته؛ يمشي في الشوارع مطأطئ الرأس، محني الهامة، بعد أن اعتاد على المشي قائلا: "يا أرض انهدي، ما عليكي قدي"!
لقد كان عصر مبارك هو العصر الذي انكسرت فيه عين الخير، وأصبحت فيه عين الشر قوية، فصار أهل الخير في كمد وحزن، وأهل الشر في نعيم مقيم... وحين جاء يناير... تنفس أهل الخير الصعداء... وعرفوا أن في هذه الأرض بذرة خير لا تموت، فتجمعوا، وتعاهدوا على إكمال الطريق، ولكن أهل الشر تجمعوا أيضا، وأصابهم سعار الانتقام.
***
من المؤسف أن يصاب بلد بالشيخوخة، وأولى البلاد بالشيخوخة هو بلد تجاوز عمره الألفية السابعة.
ومن أغرب الغرائب أن تجد بلدا يحتفل بألفيته الثامنة، وهو يجدد شبابه بعبقرية فريدة لا مثيل لها. إنها عبقرية العقل الجمعي المصري، تلك العبقرية التي تتحدى الفناء، وتضع الحد الفاصل بين المصري والهندي الأحمر.
لقد جددت مصر شبابها، وأصبحت ترى الناس في هيئة غير هيئتهم، وجوه الناس في الشوارع تغيرت... إنه يناير، ذلك الشهر الذي شهد الإنجاز الأكبر، إنجاز التغيير، تغيير دون أن يغير الناس طبعهم المسالم، لقد واجهوا الضبع دون أن يتحولوا إلى ضباع مثله، لقد واجهوا عدوا خسيسا دون أن يتعلموا الخسة... لقد واجهوا العنف بسلمية يشع بهاؤها على كل العالم، فيضيء بنور العدل والحق.
***
ثم جرت في النهر مياه كثيرة، وتجمعت قوى الشرق والغرب لإفشال ما نجح، وهزم الذين انتصروا بالأمس... نعم... لقد خسرنا هذه الجولة، نحن معترفون.
وتمادى المنتصر، تمادى بما لا يحفظ له خط رجعة، تمادى بتوريط أكبر كتلة من المجتمع والمؤسسات معه.
فعل التمادي مقصود، والهدف منه "نيروني" بامتياز، وهو دأب كل المستبدين، ولو فتشنا في أدراج المستبد سنجد في الدرج السري خطة "نيرون"... إنها "ألف باء" الطغيان!
***
يتعمد الطاغية أن يسد الآفاق، وأن يعرقل الحلول، وأن يقتل الفرص المتاحة للانفراج، لأن مشروعه الفتنة، ومبرر وجوده الخوف، وضمان استمراره إلقاء الرعب في قلوب الناس.
وكلما كان الطاغية فاقدا للثقة في نفسه، فاقدا للمشروعية في حكمه، فاقدا للمروءة في خلقه، كلما بالغ في سد آفاق الحياة.
من هذا المنطلق يمكنك تفسير تصرفات السيد عبد الفتاح "سيسي"، رئيس جمهورية الأمر الواقع، والمرشح الوحيد في انتخابات الرئاسة الهزلية.
لا يجد هذا الذي يزعم الزعامة من يقف أمامه في دور كومبارس!
لقد اعتقل وهدد كافة المرشحين الذين يمكن أن ينافسوه، أو يمكن أن يكونوا مرشحين جديرين بالترشح حتى لو لم يملكوا فرصة الهزيمة المشرفة، لقد اتعظوا بحمدين، و"سيسي" بهذا يبالغ في سد أفق الحياة، وهو أمر طالما تعودته مصر على مدار تاريخها الطويل.
الأفق المسدود ينفتح فجأة في مصر... بفعل الله العزيز المقتدر!
وكلما بالغ الطاغية في سد الأفق كلما كان انفتاح الحرية من بعده أوسع، لذلك من حقنا أن نتفائل، فما بعد "سيسي" سيكون خيرا، وإن تأخر.
***
كلمة أخيرة: ما حدث في مصر خلال الأسابيع الماضية في شأن الترشح للانتخابات يدل على أن المجتمع يحاول أن يتقيأ هذا الشخص الموجود في قصر الرئاسة.
المجتمع كله... بمدنييه وعسكرييه، فترى المحامي خالد علي منسحبا، وترى شفيق في إقامة جبرية محددة.
المجتمع كله... بكباره وصغاره... فترى ضابطا في الأربعين مثل أحمد قنصوه مسجونا، وترى آخر في السبعين مثل عنان في زنزانة مجاورة ف السجن الحربي.
المجتمع كله... بمعارضيه ومؤيديه... فترى شخصا إمعة كالسيد البدوي ينتمي لحزب كرتوني كحزب الوفد... ينسحب في اللحظة الأخيرة من انتخابات يشك الجميع أنها من مشهد من مشاهد نهاية هذا العهد الأسود.
هناك ما يشبه التواطؤ على ترك الفرصة لهذا الشخص المغتصب لمنصب الرئاسة لكي يشنق نفسه بنفسه، الكل يحدق منتظرا، البعض ينتظر العودة إلى مصر، والبعض ينتظر أن يهرع إلى طائرته الخاصة الرابضة في مطار ألماظة فورا!
نسأل الله السلامة...
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني :
[email protected]