كتاب عربي 21

مشاعر حزينة في مدن حزينة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

أمر تحت الجسر المعلق بين حي الملاسين وحومة قريش في تونس العاصمة، والأشغال جارية. قريبا يمر القطار المعلق الذي سيربط الضاحية الغربية بقلب العاصمة، وأقول مبروك لبلدي.. سيكون هناك جسر جديد، ويخف العناء على ربع العاصمة الفقير. سيدرك الناس حاجاتهم بيسر، وأتذكر.. كان أستاذي الجليل توفيق بكار يقول لي كلما عاد إلى الوطن من مسكنه الفرنسي المؤقت: طف بي في العاصمة لأرى الجديد فيها. فأحمله، ونحسب الجسور الجديدة. أرى بعض الفرح يخايله.. أقول له: العاصمة أكلت البلد، فيقول لي مغتما: نعم، ولكننا نتعزى.. سيذهب ابن علي وتبقى الجسور..

وذهب ابن علي وبقيت الجسور بعد الثورة.. خلق ذلك لدينا فرحا غامرا. لقد بقيت الجسور وسارت حياة الناس في العاصمة بشكل أيسر (أو تكاد)، وكلما افتتح جسر جديد ترسخت القناعة بأن المكان أبقى، وأن الحكومات عابرة.. ولكن العاصمة التهمت البلد، والنخبة تلتهم المستقبل.

ثلاثة من اثني عشر

 

توازن معدوم، وفقر موزع بإرادة الدولة أو بغبائها وجهلها المتعمد، وهو الأصح. كانت هناك حلول، ولكن كان يجب أن تكون هناك إرادة لوضعها حيز التنفيذ، في حين أن النخبة تلتهم المستقبل

ثلاثة ملايين هم سكان العاصمة تونس، بين مستقر وعابر في يومه.. يتجمعون في مكان واحد. كل المرافق في العاصمة وكل الإدارة في العاصمة. يحتاج الملايين الثلاثة إلى تسهيل حياتهم، فتضطر الحكومات إلى الإنفاق على ذلك، فتصب كل موازنة التجهيز العام لتسهيل حياة العاصمة، فتجد نفسها تأخذ من حق الملايين التسعة الباقية، وتحسب المعدلات. الثلاثة يأخذون حق التسعة، فتتضخم العاصمة وتفقر المدن الداخلية.

تعيش مصر والمغرب مشكلة مماثلة، حيث تتضخم القاهرة والدار البيضاء على حساب بقية البلد. توازن معدوم، وفقر موزع بإرادة الدولة أو بغبائها وجهلها المتعمد، وهو الأصح. كانت هناك حلول، ولكن كان يجب أن تكون هناك إرادة لوضعها حيز التنفيذ، في حين أن النخبة تلتهم المستقبل، فتفرح بجسور العاصمة وتتباكي على مدن فقيرة في الدواخل.

كان أستاذنا فرج السطنبولي يصرخ فينا في درس علم اجتماع التنمية: يجب خلق معادلة تنمية بتنحيف العاصمة وفتح المدن الداخلية؛ ليخف النزوح وتتوقف المدينة عن هذه السمنة المرضية. وكان يضرب لنا مثلا بالبرازيل التي خلقت عاصمة جديدة (برازيليا) لتعادل التنمية الحضرية؛ بتنحيف العاصمة القديمة، ريو دي جانريو. ولكن من يهتم بالدرس السوسيولوجي؟ فالنخبة خريجة كليات القانون تعرف أن تعدل قانون الطرقات، ولكنها لا تعرف - أو لا تريد أن تعرف - أن العدل أوسع من النص، وأن كثيرا من العدل لا يحتاج كثيرا من النصوص، إذ تكفي فقرة واحدة في قانون الاستثمار لنقل المناطق الصناعية في دائرة 100 كلم خارج العاصمة لكي يخف الزحام، ويجد الناس لهم عملا ومستقرا خارج الاختناق، وتتوقف الدولة عن بناء الجسور ليعيش ثلاثة على حساب تسعة.

شواغل النخبة تهدم الجسور

خواطر أخرى كثيرة وحزينة في أفق الانتخابات البلدية، في شهر أيار/ مايو 2018. لقد انطلقت الحملة الانتخابية، ولكن لا أحد يتحدث عن بؤس الحياة في العاصمة وعن حلول جذرية لكلفة الحياة فيها على الأفراد وعلى الحكومات. الشواغل مختلفة تماما، حتى أن المرء ليخجل أن يعيد الكتابة فيها بعد طول طرق وتكرار.

 

تيقن الجميع بأن الموعد قادم مثل يوم القيامة، فتحول الخطاب من التعطيل العام إلى التعطيل الخاص، أي عوضا عن كيف نلغي الانتخابات، نفكر بكيف نحرم الإسلاميين من الانتصار في البلديات


كنا نأمل أن تبشر الانتخابات بخطاب جديد، وأن تشتبك النخب في بلاتوهات التلفزة وفي السوشيال ميديا حول ما الذي يجب لبناء مدن المستقبل.. كيف نعالج ما أفسدت حكومات القهر والظلم والفساد منذ الحقبة الاستعمارية؟ ولكن النخبة عادت إلى ملفها الوحيد: الخوانجية سيقتلون اليسار، والإسلاميون يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم أبرياء.

بعد طول هروب من الاستحقاق، تيقن الجميع بأن الموعد قادم مثل يوم القيامة. فتحول الخطاب من التعطيل العام إلى التعطيل الخاص، أي عوضا عن كيف نلغي الانتخابات، نفكر بكيف نحرم الإسلاميين من الانتصار في البلديات. كان الناس ينتظرون ما هو البرنامج الأمثل الذي سنصوت له، فإذا البرنامج مرة أخرى بلديات بلا إسلاميين.

في المقابل، يبكي الإسلاميون على قارعة الطريق: نحن لسنا إرهابيين.. فيجدون في البكاء فسحة بأن ليس لهم كراسات لبلديات المستقبل. لا يبدو أنهم قادرون على المزايدة ببرامج مدروسة، فالعدد فيما يبدو غير مرادف للقدرة على التفكير والبرمجة والاستباق.

لقد استعد جزء كبير من الناس، تحت تأثير الرداءة المسيطرة على الفعل السياسي، لتقبل أفكار منقذة، بقطع النظر عن مصدرها (أقول هذا رغم توجهات كبيرة للإعراض عن المشاركة في التصويت). لقد مج الناس خطاب اليساري التقدمي والإخوانجي الرجعي، ومجوا أيضا خطاب الإسلامي الضحية المسكين الذي لا يُسمح له بالعمل. لكن الأفكار المنقذة لا تأتي.

 

هل ستكون البلديات القادمة المنتخبة ديمقراطيا وسيلة لحل المشاكل العمرانية والحضرية والدفع نحو تعادل تنموي بين السكان، فينال الجميع حقهم بقدر متساو من الإنفاق العام؟

هذه جسور مقطوعة دون المستقبل، ولم يعد مهما هنا أن يكون الثلاثة يأكلون قسطهم وقسط التسعة الباقية. فالنخبة مشغولة بصنع الإشاعات عن اغتيالات تقع في التلفزة، لتؤثر على الصندوق الانتخابي.

لا تزال الطريق طويلة يا معلمي

كنت وأستاذي توفيق نختم النقاشات بجمل مشابهة: لقد أفقرت الدولة نخبها الحاكمة ونخبها المعارضة على حد السواء.. لقد علمتهم الانشغال بالآني والمحدود والقصير الأمد، فجاءت كل تدابيرهم قصيرة قاصرة، وإن كان بعضها جسورا ستبقي بعدهم، ولكنها أيضا جسور قصيرة، فكثير منها قام بنقل زحام المرور من الطرق الكبيرة إلى الأحياء المجاورة، ويكفي المرء أن يقف ساعة الذروة في مدخل مدينة أريانة؛ ليرى خور التخطيط وفقر الأفكار والتصورات أي فقر الخيال.

 

النخبة التي عجزت عن التفكير في المستقبل، فكرست خلافات الحاضر لتعيش منها، لا قدرة لها على النظر أبعد من منافعها الصغيرة


هل ستكون البلديات القادمة المنتخبة ديمقراطيا وسيلة لحل المشاكل العمرانية والحضرية والدفع نحو تعادل تنموي بين السكان، فينال الجميع حقهم بقدر متساو من الإنفاق العام؟ لا أعتقد ذلك، ولن أبيع تفاؤلا مزيفا هنا أو في أي مكان آخر.

النخبة التي عجزت عن التفكير في المستقبل، فكرست خلافات الحاضر لتعيش منها، لا قدرة لها على النظر أبعد من منافعها الصغيرة، وهي لا تبني الجسور الحقيقة بين الأجيال والفئات، بل تهدم الممكن والمرتجى. فمشاكل المدينة ليست مشاكلها.

بعد الانتخابات سنكتشف أن النهضة (الحزب الإسلامي) لم يغتل أحدا، ولم يحرض على أحد، ولكنه خسر انتخابيا.. وطبعا لم يربح اليسار، فاليسار التونسي عاجز عن تأليف قائمات انتخابية أصلا (وقد يستعين بصديق نهضاوي ليكمل الشروط القانونية للترشيح، كما فعل في الانتخابات الرئاسية). ستكون الانتخابات قد مرت بشروط النخبة الكسولة، وستظل المدن التونسية تفقر لتنزح إلى العاصمة، وتظل العاصمة تأكل حقها وحق غيرها، لتعيش في انتظار انتخابات أخرى تجري تحت تأثير التهديد بالاغتيالات.

التعليقات (0)