كتاب عربي 21

تونس بعد الثورة خير.. لكن النخبة انكشفت تماما

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

أكتب في عيد الثورة منسجما مع وسم أطلقه الشباب بمناسبة عيد الثورة.. وسم "#تونس_بعد_الثورة_خير" (أو أفضل أو أجمل أو أحب إلينا مما كانت قبلها).. لكني أضيف إلى الوسم بعض عبارات نخبة تونسية تعرّت أمام شعبها فانكشفت عورتها. إننا نراها فئة متكالبة على المغنم دون وازع أخلاقي، فلا يردعها عن جشعها إلا عجزها أن تلتهم البلاد والعباد في لقمة واحدة، ولو اتسعت أفواهها لفعلت. ولا يجادلنني أحد في مفهوم النخبة، فليس هذا درسا في الفلسفة أو في علم الاجتماع، وإن استند إلى معرفة بالعلوم الإنسانية.. علوم لم تفدنا في فهم ما يجري إلا قليلا. فقد انكشف قصور معارفنا بتعقيدات واقعنا، وتلك علامة على أن توطين هذه المعارف لم يحصل بعد، وإنما نحن شراح نظريات تبلورت في واقع آخر تعمل نخبه على بناء دولها مستندة إلى خيال خلاق يجعل المغنم الفردي هما ثانويا.

ذبابة في قهوة الثورة

صباح الثورة السابع (14 يناير) نقوم للاحتفال وتبادل التهاني بالعيد، رغم ضآلة المنجز حتى الآن. نعد القهوة، نسمع فيروز، ننادي حنظلة، نزنر العلم التونسي والفلسطيني معا (فالثورة واحدة)، ونفتح الأخبار، فإذا أفسد وزراء بن علي عائد إلى أجهزة الدولة، ويتقلد منصبا مسؤولا عن الأسرة التونسية.

 

 

أليس في جعبة النظام القديم إلا رجالا مستهلكين يعيدهم إلى مواقعهم؟ وتكون الإجابة مؤلمة ومقرفة: النظام القديم لديه بدائل: لكنه يصر على إهانة الثورة ورجالها وكل ما انبثق منها

سقطت الذبابة في القهوة، وسكتت فيروز وغضب حنظلة. لا شيء يثير القرف بقدر سقوط ذبابة قذرة في قهوة الصباح الجميل. القهوة الثانية لا تكون بديلا، بل واجبا، وننصرف إلى القراءة. أليس في جعبة النظام القديم إلا رجالا مستهلكين يعيدهم إلى مواقعهم؟ وتكون الإجابة مؤلمة ومقرفة: النظام القديم لديه بدائل: لكنه يصر على إهانة الثورة ورجالها وكل ما انبثق منها.. هكذا لوضع ذبابة وسخة في قهوة الثورة، ليكون الاحتفال مشوبا بخيبة وألم. إذ نحتفل بثورة عاد رجال ابن علي الأشد بؤسا من البؤس، والأحط أخلاقا من الانحطاط، ليقودوا مؤسساتها.

ها قد شرعنا في المزايدة على الوزير النهضاوي (وزير الصحة) الذي يعود إليه "شكلا" تعيين المسؤول التجمعي في موقعه. يحق لنا ذلك، ولكن في مزايدتنا ذباب كثير لقهوة الثورة. نحن نصنع قرفنا بأيدينا، ونزعم الصراع السياسي من أجل الثورة وبها. ولكننا نتورط في توريط بعضنا البعض، لننكشف كنخبة منحطة وعاجزة وخائنة للثورة. فالمسؤول العائد ليس الأول، ولن يكون الأخير، ولكننا لا نرى من تعيينه إلا ورطة من عيّنه، ونغفل أننا جميعا مسؤولون عن ذلك. ولن نبرر لوزير، فقد ضيع شرفه السياسي ضمن كثيرين فقدوا شرفهم السياسي قبله.

لماذا تتواطأ النخبة ضد الثورة

قبل آخر العائدين لأجهزة الدولة، عاد وزير التربية (وزير بن علي المدلل) لإدارة القطاع الأكثر ثورية بزعم النقابات. سكتت النقابات وسلمت بالأمر، وأعلنت التعاون معه، رغم أنها أسقطت سلفه بالضربة القاضية، ولم يكن تجمعيا بل يساريا صميما.

 

 

 

عاد وزير التربية (وزير بن علي المدلل) لإدارة القطاع الأكثر ثورية بزعم النقابات. سكتت النقابات وسلمت بالأمر



هنا سنجد مفتاحا لبوابة التواطؤ النخبوي ضد الثورة ومستقبلها، ومفتاحا لفهم دوافع النخب السياسية... معركة اليسار مع الإسلاميين التي يقطف جناها النظام القديم.

لم نخرج من الحفرة التي أهلكت الثورة، وما التعيين الأخير إلا تأكيد لمزيد من التردي النخبوي.. هذه المعركة حكمت على الثورة، وقد تودي بها رغم التفاؤل الذي نسقيه بدموع كثيرة.

سلسلة الخيانات للثورة بدأت عشية تعيين الباجي رئيس حكومة مؤقت، وهو رجل النظام القديم (رئيس برلمان بن علي)، ثم كر الحبل على الجرار حتى أسقطت حكومات الثورة بأموال التجمع وبشباب اليسار المعتصم حول المجلس التأسيسي. تحولت الثورة حينها إلى ثورة ضد الإسلاميين ومن والأهم، وأجلت مطالبها الاجتماعية خاصة، فلم تعد مقاومة الفقر وإعادة البناء مطلبا ملحا.

 

لم نخرج من الحفرة التي أهلكت الثورة، وما التعيين الأخير إلا تأكيد لمزيد من التردي النخبوي.. هذه المعركة حكمت على الثورة، وقد تودي بها رغم التفاؤل الذي نسقيه بدموع كثيرة


طيلة سنة 2014 (حكومة المهدي جمعة) كان العمل السياسي مركزا على إقصاء الإسلاميين من الإدارة التي تسربوا إليها (وهو حق لهم بحكم الأغلبية البرلمانية)، وكلما كان يقصى إسلامي كان النظام القديم يضع تجمعيا في مكانه. ولم يكن اليسار يعترض، بل يتعاون كما هو الحال مع وزير التربية الحالي.

خيضت انتخابات 2014 على هذا الأساس، فوجد الإسلاميون أنفسهم يسارعون للتحالف مع التجمعيين لرد الفعل على اليسار. لقد صار التنافس منذئذ من يتقرب إلى التجمعيين أكثر، ومن يقدم لهم أكبر قدر من الخدمات.. وكانوا يضحكون من الثوار، ويعودون إلى إدارة البلد بلا كلفة من دم أو نضال.

وكانت تحركات كانون الثاني/ يناير 2018 موجهة هذه الوجهة. فظاهرها موجه ضد النظام، وشعاراتها ضد حزب النهضة المشارك في السلطة، كأنه وحده من يدير البلد؛ لأن باطن الفعل المكشوف - رغم التمويه - هو إخراج النهضة من الحكم مع التجمعيين (حزب النداء) لأخذ مكانها معهم. وهذا أمر لا يقال علنا، لكنه يجري مجرى الدم في كل تحرك قاده اليسار. والإسلاميون يعرفون، فيوغلون هربا في اتجاه حضن التجمع (النداء)، فيزيد اليسار في توريطهم، حتى يصير تعيين وزراء بن علي منقذا للإسلاميين.

 

يخسر الإسلاميون شرفهم السياسي، ويخسر اليسار شرفه السياسي، ويربح التجمعيون الدولة وأجهزتها ومكاسبها


يخسر الإسلاميون شرفهم السياسي، ويخسر اليسار شرفه السياسي، ويربح التجمعيون الدولة وأجهزتها ومكاسبها. هكذا مر (من هنا تسرب) وزير ابن علي إلى إدارة ديوان الأسرة والعمران البشري. طبعا لا إجابة عن السؤال: وماذا لو تحالف اليسار والإسلاميون ضد التجمعيين؟ لأن هذا السؤال يكشف الآن غباء من يطرحه. هذا هو الاحتمال المستحيل.. لم يعد اليسار يخفي قراءته النظرية: التناقض الأول مع الإسلاميين هو الموجه للتنظير والفعل، ولا بأس في الطريق من القبول بالنظام القديم. فالتناقض معه ليس جذريا. ويزيد الأمر سوءا وترديا أن هناك جزءا من النخبة السياسية والفكرية (كل الطيف الديمقراطي أو الذي يزعم أنه ديمقراطي) يقف خارج هذه المعركة، ليس لأنه يرى ضررها على الثورة، بل لأنه ينتظر نتائجها ليقطف من ثمرها دون الحد الأدنى من المبدئية الأخلاقية التي قد تقود مثقفا أو سياسيا منشغلا بالشأن العام.

هنا تنكشف النخبة

النخبة التونسية من كل الأطياف تعرف أن هذه المعركة هي سبب تخريب البلد والثورة، وقبل ذلك هي سبب بقاء ابن علي ربع قرن؛ يسرق تونس ويخرب مؤسساتها.. وقبل ذلك هي سبب الجمود الفكري وتكلس الخيال الإبداعي والتنموي؛ الذي جعل تونس تعيش خارج زمنها الديمقراطي.. ولكن لا أحد من أطرافها قال: يكفي، لنتوقف ونعيد النظر في جوهر المعركة، ونعدل على تصفية النظام القديم وبناء بدائل من رحم الثورة الاجتماعية.

 

النخبة التونسية من كل الأطياف تعرف أن هذه المعركة هي سبب تخريب البلد والثورة، وقبل ذلك هي سبب بقاء ابن علي ربع قرن


لقد حصل العكس تماما.. لقد أعادت الثورة إطلاق معركة النخب بروح استئصالية، وكان النظام القديم يتربص ويغنم ويقصي ويهين عامدا؛ من تسول له نفسه الحديث باسم الثورة سواء كان يساريا أو إسلاميا. لديه الوقت لذلك، ولديه ما يكفي من الفاسدين ليعيد بهم إفساد البلد عامدا متعمدا، منتقما بلا أدنى شفقة من البسطاء الذين أملوا خيرا من الثورة.

لماذا تعجز النخبة إذن عن تجاوز عوائقها؟ الإجابة بدأت تتضح لي رغم حسن الظن.. إنه قصور فكري وأخلاقي يكشف الجبن الذي تربت عليه منذ تشكل وعيها. فهي في الجوهر لا تختلف عن طبقة رجال النظام الفاسدين، وهي تجد مصلحتها في استدامة الصراع؛ لأنه يجلب مكاسب سهلة وسريعة، بدلا من معاناة التغيير الطويل النفس الذي يقتضي الجهد الفكري المؤسس لمجتمع مختلف عما وضع النظام القديم.

 

النخب الفكرية الظاهرة الآن في المشهد السياسي والفكري هي في جوهرها جزء من النظام، لكنها تتظاهر بالوقوف خارجه

النخب الفكرية الظاهرة الآن في المشهد السياسي والفكري هي في جوهرها جزء من النظام، لكنها تتظاهر بالوقوف خارجه. فكأنها توزع معه أدوارا مرسومة، فتملأ ما كان نظريا مكانا للمعارضة، ليبقى هو في السلطة، ويفيض عليها من كرمه، وهو البخيل المستكرش.

كان لابن علي معارضة مصطنعة نسميها المعارضة الكارتونية، فتبين بعد الثورة أن كل من عارض ابن علي كرتوني الجوهر والوجود والفعل. ستحتفل النخب اليوم بالثورة، ولكنها في جوهر فعلها تشرب القهوة بطعم الذباب.

التعليقات (1)
مصطفي التونسي
الخميس، 18-01-2018 11:50 ص
كمتابع مستقل وحسب فهمي المتواضع أري أن المعركة إيديولوجية مقيتة بين اليسار و الإسلاميين .. معركة عمل علي تأجيجها الإستعمار الفرنسي و النظام البورقيبي و التجمعي .... ولطالما جني المحرك الخبيث لهذا الصراع ثمار هذه المعركة ... ليحكم بالحديد والنار ... وكان الشعب التونسي هو الخاسر الوحيد..... وبعد الثورة تجلت لي حقيقة جلية بأن اليسار ،عكس الإسلاميين، لم يدرك هذه الحقيقة بل تمادي في نرجسيته و عدائه للإسلاميين بغباء غير مفهوم... يسار مازال يعيش سنوات الخمسينات و الستينات ، بل ويصر علي أحقيته للثورة والقيادة رغم فشلهم ... لقد أصبح اليسار عبئا ثقيلا علي شعوب العربية قاطبة