سياسة عربية

"سلطة الثقافة الغالبة".. جدل التعامل مع الثقافة الوافدة

سلطة الثقافة الغالبة
سلطة الثقافة الغالبة

يسعى الداعية والباحث الشرعي السعودي، إبراهيم بن عمر السكران في كتابه المعنون بـ"سلطة الثقافة الغالبة" الصادر سنة 2015، إلى إبراز مظاهر تأثر وخضوع مجموعات من النخب الفكرية العربية، على مختلف انتماءاتها بما فيها بعض الاتجاهات الإسلامية بالثقافة الغربية باعتبارها الثقافة الغالبة.

وانطلاقا من نزعته الدينية المحافظة جدا، والتزامه التام بنموذج الصحابة رضي الله عنهم في تصور المفاهيم والتعاليم الشرعية، فإن المؤلف في سياق عرضه للاتجاهات الفكرية العربية المتأثرة بالثقافة الغربية لم يتردد في إدراج من أسماهم بـ"التنويريين الإسلاميين" إلى جانب "العلمانيين والليبراليين واليساريين". 

يُعرف عن السكران تأثره بالخطاب الليبرالي في وقت سابق من تاريخه الفكري والدعوي، واشترك في تلك المرحلة مع عبد العزيز القاسم في تأليف كتاب ناقد لمنظومة المعارف الدينية المقررة في المناهج الدراسية السعودية بعنوان: "المقررات الدراسية الدينية أين الخلل..؟ قراءة في فقه التعامل مع الآخر والواقع والحضارة في المقررات".

لكنه لم يلبث بعد إصدار ورقته البحثية المعنونة بـ"مآلات الخطاب المدني" سنة 2007، أن تبرأ مما كتبه سابقا، خاصة في كتابه السابق، معلنا بكل جرأة ووضوح "وأنا أبرأ إلى الله من كل حرف خططته قبل ورقة مآلات الخطاب المدني، وأحذر كل شاب مسلم أن يغتر بمثل هذه المقالات التي كنت فيها ضحية الخطاب المدني المعاصر، الذي يغالي في الحضارة والتسامح مع المخالف..".

من الجدير بالذكر أن أغلب القضايا والنماذج التي تمت مناقشتها في الكتاب هي انعكاس لحالة الجدل الساخنة السائدة في الساحة الدينية والفكرية السعودية ما بين 2003 إلى 2010 (السنين السبع العجاف طبقا لعبارة المؤلف)، وقد واصل السكران كتاباته وأطروحاته الخادمة لمقصده ذاك، إلى أن تم اعتقاله سنة 2016، ثم صدر في حقه حكم بالسجن خمس سنوات "بسبب تغريدات وصفتها المحكمة بـ"المسيئة".

تتمثل فكرة هذا الكتاب المركزية في الكشف عن "نمط فهم الدين في مراحل الاستضعاف أمام الأمم الغالبة" مع إيراد "نماذج وعينات تكشف عن مدى "تأثير الثقافة الغالبة في تأويل الأحكام الشرعية لإخضاعها لهيمنتها.."، ومن الواضح جدا أن السكران يتهم النخب والاتجاهات الإسلامية الداعية إلى مراجعة بعض الأحكام والتعاليم الشرعية باستحضار تاريخيتها وزمانيتها بالخضوع التام للثقافة الغربية، وأن نمط فهمها للدين يعتبر شاهدا صارخا على ذلك الخضوع والخنوع.

يحذر السكران الشباب من الانخداع بما يروج له على أنه حالة انفتاح وتجديد بقوله: "وبعض الشباب المتطلع للثقافة اليوم يتوهم أنه يعيش انفتاحا وتجديدا بين مجموعة من المنغلقين، ولا يعلم أنه ضحية لمؤامرة سياسية كبرى تستهدف من خلال نوافذ مختلفة إعادة ترميم الإسلام لينسجم مع مصالح اللاعبين الكبار، باعتبارها ثقافة الغالب".

ويتابع السكران تحذيره للشباب بلغة هجومية صارمة "وأطرف ما في الأمر؛ أن بعض هؤلاء الشباب ينعى على علماء ودعاة أهل السنة ضعف الوعي السياسي، ولا يعلم أنه هو الذي يدار بخيوط السياسية من بعيد، ويُطبَخ في قدر الهيمنة الغربية وهو لا يدري".

ويرجع السكران أسباب احتدام الجدل حول جملة من "الملفات الشرعية الملتهبة" إلى ضلوع جهات خارجية، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية سعيا منها لتكييف نسق الفهم الديني في الأوساط الإسلامية بما يخدم مصالحها في المنطقة، وبما تريده من تفكيك المنظومة الدينية "الوهابية" التي تتهمها بالمسؤولية عن إنتاج فكر الكراهية والعنف والتطرف.

يتساءل السكران مدللا على ذلك "أليس مثيرا للانتباه أن كل الملفات الشرعية الملتهبة اليوم نجدها في المسائل محل التعارض بين "نصوص الوحي" و "ثقافة الغرب الغالب" كما نجده مثلا في: الولاء والبراء، الجهاد، تحكيم الشريعة، قتل المرتد، الحجاب، الاختلاط، سفر المرأة بلا محرم، القوامة، الرقية الشرعية، المعازف..إلخ، فهل إثارة الغبار في وجه هذه المسائل دون غيرها حدث هكذا اعتباطا؟".

الاستبداد
انطلاقا من تعريفه للاستبداد بمعناه العام بأنه "الخضوع لسلطة غير موضوعية، ويزيد الأمر أحيانا إلى محاولة خلق المستندات والحيثيات التي تبرر إكراهات هذا الاستبداد"، أوضح السكران أن "الاستبداد في حقيقته ليس لونا واحدا كما يتصور الكثيرون، بل هو على مستويات، من أهمها الاستبداد السياسي والاسبتداد الثقافي، ولكل نوع من نوعي الاستبداد ضحاياه".

يتابع السكران شرح فكرته قائلا "فضحايا "الاستبداد السياسي" يغالون في مفهوم الطاعة السياسية فوق القدر الشرعي المأمور به، وينفرون من الاحتساب الولائي، ويميلون للتفهم الشرعي لكل أمر سلطاني، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ أوامر المستبد، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد بعبارات الانبهار والتفخيم، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي أمام نفوذ المستبد السياسي".

أما "ضحايا الاستبداد الثقافي" فطبقا للسكران فإنهم "يميلون للتفهم الشرعي قدر الإمكان لثقافة الغرب الغالب في السياسة والاجتماع والحكم، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ مفاهيم الثقافة الغربية الغالبة، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الثقافي بعبارات الانبهار والتفخيم، مثل: المعجزة الغربية، الحضارة الغربية.. وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الثقافي".

ويناقش المؤلف طريقة كل من ضحايا الاستبدادين (السياسي والثقافي)، موجها كلامه لقارئ كتابه "لو قلت لهم: أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لأوامر المستبد السياسي، لغضبوا عليك، ورأوك جائرا ظالما في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك".

ثم يوجه انتقاده لطريقة تفكير ضحايا "المستبد الثقافي" بأنك "لو قلت لهم: أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لثقافة المستبد الغربي الغالب؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائرا ظالما في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأن لديهم نصوصا وهم أقرب للشريعة منك".

في محاولته الكشف عن "الآلية الداخلية التي يتم من خلالها تطويع النصوص الشرعية لأفكار المستبد، سواء السياسي أو الثقافي لفت السكران إلى أن الأمر "يتم على هذه الصورة: تجد كثيرا من النصوص الشرعية تحتمل عدة دلالات نتيجة طبيعة بنيتها اللغوية، وهي قضية دلالية/ سيميولوجية، وعلماء المسلمين يتعاملون مع هذه الاحتمالات الدلالية بـ"منهج علمي) لتحديد الدلالة التي تعبر عن مراد الله، هذا هو المسار الطبيعي للعالم المستقل المتحرر من نوعي الاستبداد". 

أما "الخانع لأحد نوعي الاستبداد" فوفقا للمؤلف "فإنه لا يرجح بين هذه الاحتمالات الدلالية بمنهج علمي؛ وإنما ينتقي من هذه الدلالات ما يتوافق مع اتجاه المستبد الذي يخضع له، سواء كان مستبدا سياسيا أو ثقافيا، فصار المرجح في الاحتمالات الدلالية للنصوص ليس المنهج العلمي وإنما هوى المستبد السياسي والثقافي". 

وتتجلى النزعة الاتهامية لدى المؤلف حينما لا يفرق بين أصناف ومستويات من أسماهم بـ"التنويريين الإسلاميين"، إذ ليسوا كلهم يقدمون رؤاهم واجتهاداتهم تأثرا وخنوعا للثقافة المتغلبة، بل منهم من يقدمها بتأصيلات شرعية، ويدعمها بأسانيد دينية، لكن المؤلف يمضي في اتهاماته واصفا كتابات وكلام من يهاجمهم بـ"الهزيمة المضمرة، وتشعر أحيانا أن الكاتب يحاول أن يستقل لكنه ينهار مرة تلو مرة، فكلما أراد أن يغرف الدلالة الراجحة بدلاء المنهج العلمي، جرته سلاسل الاستبداد الثقافي فسقط". 

إخضاع النصوص
أفرد المؤلف فصلا كاملا لمناقشة ما أسماه بتقنيات إخضاع النصوص للثقافة المتغلبة، أولها هي "عزل النص عن التجربة البشرية"، يشرح المؤلف ذلك بقوله "كثير من الكتاب المتأثرين بضغط الثقافة الغالبة يعانون من مفهوم مضلل أربك كثيرا من تصوراتهم الإسلامية، واكتشفوا أنفسهم في ظل نتائج تورطوا بها لم تخطر على بالهم لحظة الإعجاب الأولى بهذا المفهوم".


يناقش المؤلف ذلك التصور تحت ما أطلق عليه "مشكلة المتوالية الفكرية" حين يتبنى بعض الناس "مقدمات خاطئة" يسارع في تبنيها قبل الاستكشاف المسبق للوازمها، فيحرص على أن يحافظ على اطراده فيها فيلتزم لوازم تنتهك في مصائرها النهائية حدود الوحي".


يواصل السكران شرحه لفكرته السابقة قائلا: "هذا المفهوم يمكن أن نسميه "تجريد الإسلام" أي جعل النص فكرة مجردة، ومؤدى كلام هؤلاء أن الإسلام لا يرتبط بأي تجربة بشرية، ويذكرون لذلك عدة مبررات مجازية مثل قولهم (يجب تخليص النص المقدس من التاريخ غير المقدس)، وقولهم: (النص مطلق، والفهم البشري محدود، والمحدود لا يحكم المطلق). 


وجوابا عن سؤال "لكن أين يظهر أثر هذا المفهوم؟ قال السكران "الحقيقة أن أثره يظهر حين يطلق أحدهم تفسيرا معينا لحكم من أحكام الوحي يتناقض جذريا مع فهم الصحابة لهذه الآية أو الحديث، وقد يزداد الأمر سوءا فيزج أحدهم بقاعدة ومبدأ تفسيري كامل يترتب عليه مناقضة نمط فهم الصحابة للإسلام، فتتسلسل الفروع المخالفة لهدي الصحابة عبر المبدأ التفسيري، وبعض هؤلاء يمارس ذلك ليس بسبب جهل علمي، بل بسبب "هوى مسيطر"، مقررا أن أن مناقشة هذا الصنف مناقشة علمية تعتبر ضربا من العبث، وامتهانا للعلم ذاته. 

يواصل المؤلف ذكر ومناقشة تلك الآليات التي يتذرع بها من أغوتهم الثقافة الغربية لإخضاع الأحكام الشرعية بما يتلائم مع تلك الثقافة، فيذكر تشبثهم بمفهوم الوسطية، و"قطعنة الشريعة" أي عدم الإنكار إلا فيما كان من قطعيات الشريعة ثبوتا ودلالة، وتقنية التبعيض: أي التعامل مع النصوص الشرعية بانتقائية مرذولة، فياخذون من النصوص ما يسند فكرتهم، ويتغاضون عن كل النصوص الأخرى التي تهدم فكرتهم من أصلها، إضافة إلى انبهارهم بالذوق الغربي..إلخ

دعوات تجديد
ركز المؤلف كثيرا على دعاوى تجديد "أصول الفقه" والتي يراد بها طبقا للمؤلف إسقاط ذلك العلم المعياري المتضمن لقواعد وأصول فهم دلالات النصوص الشرعية فهما منضبطا بحسب المقرر في ذلك العلم، وكذلك إثارتهم المتكررة لشبهات "الرواة المكثرين"، "فأصول الفقه مسؤول بالدرجة الأولى عن ضبط الدلالة، ومصطلح الحديث مسؤول بالدرجة الأولى عن ضبط الثبوت، والمعطيات الشرعية قائمة على هذين الركنين: الثبوت والدلالة". 


ويجادل المؤلف بقوة ما يطرحه "وكلاء الثقافة الغالبة" وفق تسميته، من أن أصول الفقه علم اجتهادي، فما المانع أن نطوره؟ وأن أصول الفقه ابتكرها الشافعي، ولذلك فهي مرتبطة باحتياجات عصره، فيلزم أن نطورها لتتناسب مع احتياجات عصرنا، فيبين أن من أصول الفقه ما هو قطعي ومنه ما هو اجتهادي، وينكر قولهم أن الشافعي هو من أسس أصول الفقه، الذي كان معروفا بمضامينه ومحتوياته في عصور الصحابة والتابعين، ولم يكن للشافعي إلا أن جرده في تأليف مستقل. 

تُظهر طبيعة الموضوعات والقضايا التي يناقشها الباحث الشرعي السعودي إبراهيم السكران في كتابه "سلطة الثقافة الغالبة" طبيعة الجدل الدائر في الساحة الإسلامية، خاصة في كيفية التعامل مع الثقافة الوافدة، بين من يرفض الأخذ بشيء منها باعتباره خضوعا وخنوعا للثقافة المتغلبة، وبين من يرى أن ثمة مشتركات إنسانية، تنتظم تحتها جملة من القيم والأفكار التي يمكن الأخذ بها بعد إخضاعها للنظر الشرعي المستقل، والمتحرر في الوقت نفسه من أي لون من ألوان الاستبداد سواء منه السياسي أو الثقافي.

التعليقات (0)

خبر عاجل