مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (3)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

حسن البنا الخائف

بين فصلي من الدراسة وعودتي إليها - في السابعة عشرة من عمري -هدنة لإعادة تنظيم نفسي، وإعدادها لانطلاقة جديدة أشد حماسة ومثابرة. وانطلقت أجدد هذه الحياة، وطفقت أطرق أبواب وكتب المشايخ الأجلاء، أمثال: محب الدين الخطيب، وفقه السنة للشيخ سيد سابق، ورسائل الإمام البنا، وعبد القادر المازني (الشاعر).

كنت أحرص على الذهاب للمركز العام للاستماع إلى الأستاذ البنا؛ الذي حرص على معرفتنا - من خلال لقاء الخميس- معرفة شخصية، فكان يعرف كل واحد باسمه، وعنوان سكنه، ومدرسته، وأيضا عرف وضعي، وشدة والدي إذا تأخر أحد أبنائه بعد الساعة الثامنة، فكان الأستاذ البنا في أثناء محاضرته وقبل الساعة الثامنة ينادي عليّ: يا عاكف.. اذهب للبيت حتى لا تتأخر عن موعد والدك.

وكان الأستاذ البنا - رضي الله عنه وأرضاه - يقيم صلاة القيام بالقرآن كل هدا داخل المركز العام، وفي اليوم الذي كان يتغيب فيه لأي سبب كان يقوم الشيخ سيد سابق مكانه.

بين شوارع القاهرة

في منتصف العام الدراسي تقريبا، انتقلنا لنسكن في شارع الملكة نازلي - شارع رمسيس الآن - وكانت لذلك قصة طريفة؛ فقد كنت في شعبة العباسية، وكان رئيس الشعبة الأستاذ أحمد شكري، فقال ذات يوم - أثناء وجودي في الشعبة - إن المنزل الذي وراء الشعبة سوف يتركه سكانه، ونحن نأخذ النور من عندهم، ونخشى أن يسكن فيه آخرون فيضيقون علينا، ويمنعون عنا الكهرباء، فقلت له: أرني هذا المنزل؛ لأن والدي يرفض أن يحضر من البلد؛ لأنه يرى أننا نسكن في بيوت حديثة ضيقة، وهو يريد بيتا واسعا مثل بيوت البلد، وكان والدي قد عاد لقريتنا مرة أخرى.

وبالفعل ذهبت لرؤية هذا البيت، فوجدته مناسبا جدا، وكان عبارة عن ست حجرات واسعة وصالتين، والسقف مرتفعا، وأمامه حديقة. فأخبرت أبي، واستشرته في الأمر، وزينت له الأمر، فوافق على رأيي، وتم الأمر سريعا، واستقرت الأسرة فيه بعدما انضم إلينا والدي مرة أخرى.

يا عاكف ليس لنا أحد في كلية الرياضة

حينما التحقت بالإخوان، كان والدي - عليه رحمة الله - يريدني أن أدخل الكلية الحربية لكي يبعدني عن الإخوان. وبالفعل تقدمتُ بأوراقي إليها، ونجحتُ في الكشف الطبي، وكان قائد الكلية الحربية يعرف والدي، ويعرف أقاربي، ولكنني لم أدخل الكلية الحربية في النهاية. فقد حدث أنني كنت جالسا عند ذلك القائد، وأحد أقاربي يكلمه ويقول له: فلان سيأتي إليك، فقال له مداعبا: "هو حلو ولا لأ؟"، وعندما سمعتُ هذه الكلمة أخذت أوراقي، وتقدمتُ بها إلى كلية الهندسة، وعندما علم بذلك والدي لم يمنعني من الالتحاق بها، ولكنني لم ألتحق بكلية الهندسة أيضا؛ لأنني كنت في ذلك الوقت في النظام الخاص للإخوان، وكان قد مرَّ عليَّ سنتان لم ألتقِ فيهما بالأستاذ البنا، ولم أجلس معه، حتى في محاضرة الخميس كما كنت أفعل من قبل، فقلت للأخ الحارثي المسؤول عني: هل نحن تابعون لك أم للأستاذ البنا؟ وفوجئت في اليوم التالي بالإمام البنا يرسل إليَّ وإلى مجموعتي ليلتقي بنا.

وعندما ذهبنا لمقابلة الأستاذ البنا، ظلَّ يستعرض معنا نشاط الإخوان والشعب عامة، وقال لي: ليس لنا أخ في معهد التربية الرياضية العالي، فوعيتُ هذه الكلمة، وذهبت لكلية الهندسة، فوجدت الشهيد صلاح حسن - الذي استشهد في معركة الكرامة الشهيرة في الستينيات في الأردن - وكان من إخوان السيدة زينب، فعرضتُ عليه أن نذهب لمعهد التربية الرياضية فوافقني. وسبحان الله، كأنّ الأمور مرتبة؛ حيث استقبلوني استقبالا طيبا، وأُجريت لي اختبارات قاسية: رياضية ونفسية وصحية، وكانت اللجنة التي أجرت لي الاختبار الشخصي تضم الدكتور القوصي، والدكتور زكريا عميد المعهد، والدكتور فؤاد جلال، أستاذ التربية وقتها. وظلوا يكلمونني عن الممثلين والممثلات، فوجدوني جاهلا تماما في هذا الأمر، ثم سألوني عن وزراء مصر والسياسة، فوجدوني أحفظ وزراء مصر من أول وزارة حتى الوزارة الحالية، فقلت لهم إنني من الإخوان المسلمين، وأعرف في السياسة، ولا أعرف في التمثيل، ولا الرقص، فضحك د. القوصي، وقبلوني.

لا شك أن التحاقي بمعهد التربية الرياضية أحدث أزمة شديدة بيني وبين أهلي وإخوتي؛ الذين كانوا يريدونني مهندسا مثلهم، وخاصة والدي الذي غضب لذلك غضبا شديدا. ولم تنته تلك الأزمة إلا بعد شهور عندما أخذت والدي لزيارة المعهد، فوجد فيه أشخاصا راقين.

ليس حبا في الرياضة

لكن الحقيقة أنني دخلت المعهد لسببين؛ أولهما: لخدمة الإخوان؛ حيث كنا نرغب في الانتشار، وتوصيل دعوتنا في كل مكان. أما السبب الثاني: فقد كان والدي نفسه رحمه الله؛ كان شديدا جدّا في حرصه علينا، فكان بعد الساعة الثامنة لا يُدخل أحدا البيت، حتى إخوتي الذين تخرجوا، وأصبحوا مهندسين، لم يكن أحد منهم يتأخر عن هذا الموعد؛ ولأنني كنت في النظام الخاص، وكنا كثيرا ما نتأخر، وأحيانا أرغب في المبيت خارج المنزل، فقد كان التحاقي بالمعهد فرصة لأتعلل عند ما أتأخر خارج البيت.

وعندما التحقت بالجامعة، كان أكبر تيار موجود في ذلك الوقت هو التيار الممثل لحزب الوفد، وعلى رأسه مصطفى موسى، وكان خطيبا مفوها، ويليه الشيوعيون، الذين تقدموا بعد ذلك على الوفد، واستطاعوا تحويل الشباب الوفدي إلى شيوعيين. وذلك كله في منتصف الأربعينيات، وكان الوفد في تلك الفترة لا يحمل فكرا محددا، ولا منهجا واضحا، إلا أنه كان مجرد تاريخ وأسماء ضخمة. وبعد ذلك خرجت الأحزاب من الوفد فخرج الأحرار، والسعديون، والكتلة الوفدية.

لست شيوعيا

أما الشيوعيون، فقد كانوا أشخاصا منظمين. صحيح أنهم فرق كثيرة، ولكنهم منظمون، ولهم مبادئ مكتوبة، ومنشورات، وكتب. وكل ذلك كنا قد درسناه دراسة وافية بناء على توصية الأستاذ البنا أن الرأي لا يقاوم إلا بالرأي، ومن هنا أنشأنا جماعة الشباب المسلم.

لقد بلغ من تأثير الإخوان في غيرهم أن الشيوعيون أنفسهم كانوا يحفظون أناشيدنا، ويحرصون على قراءة منشوراتنا. فقد كان سمت الإخوان يجبر كل الناس على احترامهم، وكانت تحياتهم تتصف بالحيوية والنشاط والالتزام، وكان يحدث أحيانا أن يضيق بعض الإخوان ذرعا بهؤلاء الشيوعيين، وتصرفاتهم غير المسؤولية؛ فيضربونهم، ولكن الأستاذ البنا كان يقول لنا: "لا بد أن نقابل الرأي بالرأي، والحجة بالحجة"، ولذلك أنشأنا ما يسمي "بالشباب المسلم" كما سبقت الإشارة، وإنما لم نطلق عليه نشاط الإخوان المسلمين حتى لا يخشي منه أحد. وبدأنا نصدر كتبا باسم الشباب المسلم تحمل أفكار الأستاذ البنا، والأستاذ المودودي، وغيرهما، ولقد غزت هذه الكتيبات الجامعة، واستطعنا التغطية على فلسفة الشيوعيين، وآرائهم. ولعلاقتي بالشيوعيين ظن البعض أنني شيوعي؛ لأنني كنت أتعامل مع الجميع، غير أنني مميز بحرصي على ديني، وحبي للإخوان لكنني كنت أبغي أن يجمع بيننا حب الوطن، والعمل من أجله.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (1)

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (2)

التعليقات (0)

خبر عاجل