كتاب عربي 21

كرسي المقاومة وكرسي السلطة

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

في هذا المقال نقارن بين كرسيين: كرسي السلطة وكرسي المقاومة.. فماذا نعني بهما؟ وما هما المشهدان اللذان أثارا هذا الأمر في هذا المقال؟

المشهد الأول مشهد إبراهيم أبو ثريا، يجلس على كرسيه المتحرك ثم ينزل من عليه؛ ينادي هاتفا أن القدس من فلسطين وعاصمة فلسطين، وينزل من عن كرسيه ليلتقط علم فلسطين ويرتقي الساري عند الحدود، ليقوم برشق هذا العلم مؤكدا على قدس فلسطين وفلسطين القدس.. أما المشهد الثاني، فهو كرسي يبدو أنه متسع عليه؛ يحاول من يجلس عليه أن يملأه بشكل أو بآخر، فيفرد ذراعيه وتنتفش أوداجه، ثم يتكلم كلام الانبطاح.. فلا عن القدس دافع، ولا على القرار عقب.. إنه ولي عهد السعودية. بين هذين المشهدين كرسي المقاومة وكرسي الملك.. كرسي يصنع الإرادة، وكرسي يحرك كل مناخ التجبر والطغيان على أهله، وكل أشكال التضاؤل والانبطاح أمام الكبراء في إدراكه.. الكبراء هنا هما "ترامب" الأمريكي والكيان الصهيوني.

إبراهيم أبو ثريا (29 عاما) ينحدر من مخيم الشاطئ للاجئين غرب قطاع غزة.. انقلبت حياة إبراهيم رأسا على عقب عندما تعرض لقصف مروحي إسرائيلي استهدفه برفقة أصدقائه، في نيسان 2008 في شرق مخيم البريج وسط غزة، حيث فقد ساقيه، واستشهد سبعة من مرافقيه. ورغم أنه أصبح يتنقل عبر كرسي متحرك، فإن هذا الشاب الفلسطيني بات يشارك بفعالية في الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة للاحتلال الإسرائيلي. ويقول شقيقه سمير لوكالة الصحافة الفرنسية إن إعاقته لم تمنعه من التظاهر من أجل القدس، وكان يذهب لوحده يوميا إلى الحدود بين غزة والاحتلال. استشهد إبراهيم يوم 15 كانون الأول/ ديسمبر 2017 برصاص الاحتلال الإسرائيليـ أثناء المواجهات التي جرت بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال على الحدود الشرقية لمدينة غزة. فقد إبراهيم أبو ثريا ساقيه قبل نحو 10 سنوات في قصف إسرائيلي، بعد أن رفع علم بلاده على حدود قطاع غزة، وظل منذ ذلك الحين مع كرسيه المتحرك مشاركا فعالا في المواجهات حتى مقتله يوم الجمعة 15 كانون الأول/ ديسمبر 2017؛ برصاصة في الرأس أطلقها عليه جندي إسرائيلي.

 

بين هذين المشهدين كرسي المقاومة وكرسي الملك.. كرسي يصنع الإرادة، وكرسي يحرك كل مناخ التجبر والطغيان على أهله،

ماذا تعني رمزية هذين المشهدين؟ كرسي المقاومة لإبراهيم أبو ثريا استدعى في الذاكرة كرسي أحمد ياسين، العاجز المعجز في إرادته وفي مقاومته.. ما خاف الكيانُ الصهيوني مثلما خاف أحمد ياسين بصوته المتهدج؛ الذي كان يحمل كلمات المقاومة، فتصيب هذا الكيان في مقتل وتحرك كلماته الجموع، فتخرج من كل نبات.. نبات عزة ونبات شرف ونبات كرامة ونبات مقاومة ونبات كفاح ونبات جهاد.. أحمد ياسين كان يتحرك على كرسي لعجز أصابه، ولكن روحه كانت فياضة بالمقاومة. إن لم يسعفه جسده تسعفه روحه، وتنطلق كلماته كالصواريخ العابرة والطلقات الهادرة، لا يهمه العدو، يستصغره في عينيه وفي عقله وفي إرادته، بينما يكبر حجم فلسطين في قلبه وإرادته.. يحرك كل شيء، وقاد المقاومة في فترة دقيقة.. ها هو إبراهيم أبو ثريا يولد على نفس الشاكلة في احتجاجات سابقة أصيب فيها وبترت ساقاه، ولكن بتر قدميه لم يمنعه من مواصلة المقاومة والاحتجاج.. إنها القدس تناديه، فيخرج في الصفوف الأولى ليؤكد أن لا أهمية لأي شيء سوى القدس وفلسطين. يغادر كرسيه المتحرك وتصيبه عزة المقاومة، ويحمل علم فلسطين.

أما الآخر، فإنه يريد كرسي السلطان.. كرسي الملك هو ما يملأ عليه عقله وتصرفاته. تكتب عنه الصحف كلاما خطيرا؛ لتوضح كيف لعبت برأسه السلطة فصار يصدر ما شاء من قرارات واعتقالات ومصادرات ومشروعات يبشر بها. كلمته صارت القانون، وتحت ما أسماه بمواجهة "الإسلام السياسي" وسياسة "مكافحة الفساد" يعتقل علماء الدين ويصادر أموال رجال أعمال، حتى لو كانوا من الأسرة المالكة أو يرتبطون بها.. لا يهمه كل ذلك، إلا أن يخلي الطريق لكرسي سلطانه وملكه. هو لا يعلم أن شرعية هذه المنظومة لا تعتمد إلا على ساقين: ساق تتعلق بالأسرة، وساق أخرى تتعلق بالدين وعلمائه، إلا أنه نال من هذين الساقين مفتتنا بجبروت شبابه ومراهقته السياسية، وسلطة يبطش بها كيفما شاء وأنى شاء. وهنا، وهو يحارب الفساد، يشتري يختا ويشتري لوحة ويشتري قصرا؛ ليتنعم بكل ذلك.. سلطت صحيفة "نيويورك تايمز" ضوءها هذه الأيام على مشتريات ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، والتي تحمل طابع "الأغلى في العالم". كشفت الصحيفة أن ابن سلمان اشترى قصر لويس الرابع عشر في فرنسا بمبلغ 300 مليون دولار، قبل عامين، إذ كان حينها أغلى منزل في العالم. وكان قبلها قد اشترى يختا بقيمة نصف مليار دولار، ولوحة للرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي بقيمة 450 مليون دولار، وكلاهما الأغلى في العالم.

 

ممارسة السلطة بكونها تحكما لا مسؤولية فيها ولا حنكة.. الأمر هنا فقط تحكم وطغيان، فما مكان القدس في كرسيه الذي يملأ عليه كيانه وتفكيره.. القدس يغتصبها الكيان الصهيوني، والذي أهداها له ترامب الحاكم بأمره.. هو (ابن سلمان) لا يستطيع أن يُغضب هذا أو ذاك، ومن ثم القدس ضئيلة في وجدانه، وكرسي الملك ملأ عليه كل حياته.. من يساعده على اعتلائه كان داعما له، خادما لرغباته.

كرسي "إبراهيم" لا نعني به إلا الرمز.. كرسي يعينه على الحركة على الصمود حتى لو بترت أو عجزت قدماه.. درس ياسين ودرس أبو ثريا يتحدثان عن الكثير.. أن الكرسي الدال على عجز بدنه هو في ذاته مصدر إعجاز مقاومته. عرفتم كيف أن الكرسي المقاومة لا يعرف العجز، ولكنه يعرف الإعجاز؟ يعرف المقاومة والكرامة والشرف والعزة.. حينما يقوم هؤلاء بهذا العمل، فكيف بالأصحاء هؤلاء يتقدمون الصفوف، فيشعلون فتيل العزة ويؤججون نار الكرامة والمقاومة؟ إنهم ينالون من العدو.. إنهم يؤكدون الرسالة التي تتعلق بقدسهم، قدس الأقداس في القدس المدينة، في الأقصى المسجد؛ يحمونه عن بعد، ينادون كل قريب وبعيد لأن يقاوم الغاصب المحتل، وأن يقاوم العنصري المستبيح.

وعد "ترامب" أعطى من لا يملك لمن لا يستحق.. كرسي المقاومة يعني، ضمن ما يعني، أن هذه الأمة لن تموت حتى لو مات بعض من أبنائها ففي ذلك حياتها. حياة القدس تستمد من شهادة بعض أبناء فلسطين. أبو ثريا كان هدفا لكيان إسرائيلي لم يحتمل كلمات العزة والمقاومة، لم يحتمل إعجاز العاجز في الممانعة والاحتجاج، لم يعرفوا كيف يسكتوه، لا يعرفون إلا لغة الجبن والرصاص.. قنصه بالرصاص. استشهد أبو ثريا وعاشت القدس وفلسطين، هكذا قال قبل استشهاده. كلمات قليلة تعلم الدنيا درس المقاومة، الدرس الذي يستهين به كثيرون لا يعرفون معنى الأرض والعرض والقدس والوطن.

 

القدس ليست بعيدة عن كرسي المقاومة وكرسي السلطان.. واحد يتمسك بها ويموت من أجلها، وآخر يفرط فيها ويستمسك بالكرسي


القدس ليست بعيدة عن كرسي المقاومة وكرسي السلطان.. واحد يتمسك بها ويموت من أجلها، وآخر يفرط فيها ويستمسك بالكرسي. ها هو أحد الخبراء في السعودية "عبد الحميد حكيم"، مدير "مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية" بجدة، يقول: "لكي نفاوض إسرائيل بجد، فلا بد أن نتخلص من إرث الإسلام السياسي الذي كرس بغض اليهود، وأنكر حقهم في القدس، وهي رمز ديني لهم، كما أن مكة والمدينة رمزان دينيان للمسلمين"! ألا لعنة الله على كرسي المُلك الذي يفقد هؤلاء توازنهم، ويفقد هؤلاء معنى إنسانيتهم، وينسيهم كل أنواع الكرامة والعزة والشرف. ينسيه معنى الدين الكامن في جوف القدس.. لا يرى أي شيء في الدنيا له قيمة إلا كرسي الملك. لعنة الله على كرسي لا يجيد إلا فن الطغيان على بني وطنه، يعتقلهم ويهددهم ويتوعدهم بدعاوي باطلة فاسدة، ثم بعد ذلك لا يتخذ من موقف إلا انبطاح من بوابة اكتساب شرعنة ملكه القادم من "ترامب" العنصري، ومن كيان صهيوني غاصب.. فلا يقول إلا إثما، ولا يعي أمرا يتعلق بمعاني العزة والكرامة.. "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون".

التعليقات (0)