من الخبرات السابقة في
تعبير "ما بعد" أنه يحدث فاصلا واضحا أو على الأقل يحاول ذلك، وذلك سواء
بالنسبة للأفكار أو الأحداث الكبرى، فما بعد الحداثة وما بعد 11 سبتمبر من أشهر
التعبيرات التي استخدمت "ما بعد".
وفي مصر يبدو أننا على
موعد مع "ما بعد"، فما حدث في الواحات له من الدلالات العميقة في الصراع
أكثر بمراحل من الدلالات العملياتية الإجرائية، وكي نستطيع الاستمرار في تطوير
المد الثوري لابد لنا من الفهم الصحيح لما حدث حتى لا نتوه بين التفاصيل فلا نغرق
في القلق أو الخوف من توسع المواجهات المسلحة وعلى الجانب الآخر لا نسرف في
الاعتقاد بانهيار النظام الحاكم أمام الهجمات المتتابعة والشديدة القوة.
بالتأكيد تشير العملية
إلى ارتفاع القدرات العسكرية والمعلوماتية للمجموعة المقاتلة، كما تشير إلى انهيار
كبير في مستوى التدريب القتالي والأمني للقوات الأمنية الحكومية، فما حدث في
الواحات مع الشرطة لا يختلف كثيرا عما حدث في كرم القواديس مع الجيش وكانت النتيجة
متقاربة في الحادثين؛ حيث تم سحق القوات الحكومية والاستيلاء على أسلحتها دون
مقاومة أو خسائر في جانب المجموعات المهاجمة، ولذلك فإن الانهيار في المستوى التدريبي
والقتالي واضح في كل الجهات التابعة للدولة.
إلا أن الدلالات
الأكثر عمقا هي ما يمكن مناقشتها في الأسئلة التالية:
1- ما هو المؤشر العام لتوسع المدى الجغرافي
للعمليات خلال السنوات السابقة؟
2- ما هي المناطق التي أصبحت تعطي انطباعا
ذهنيا إلى المستمع أنها مناطق خطرة بالنسبة لقوات الأمن؟ وهل تزيد أم تقل مع الوقت؟
3- ما هو التطور الفكري "أو بمعنى أكثر
دقة" ما هي الإجراءات التي تقوم بها المجموعات المهاجمة وتعطي رسائل للجماهير
وللنظام السياسي معا؟
4- هل وصلنا لنقطة حرجة يمكن القول معها
باستحالة القضاء على المجموعات المهاجمة وأن ما بعد الواحات يمثل مرحلة تختلف
تماما عما قبلها؟
لا شك أن المساحة
الجغرافية للعمليات العسكرية قد ازدادت وخرجت من سيناء التي كانت هي منطقة
المواجهات المفتوحة، ومن المهم ذكر أن خروج العمليات من سيناء وانتشارها في مناطق
متاخمة للقاهرة وربما توطنها داخلها وفي المحافظات المحيطة بها قد حدث في زمن قليل
نسبيا في الظروف الحالية بمصر، وليس ذلك فقط؛ ولكن ما حدث هو زيادة المهارة
التكتيكية والتنفيذية لتلك العمليات مع الوقت، مما يشير إلى قوة أفكار العمل
المسلح ضد القوى الأمنية والعسكرية بمصر، ونحن الأن لا نناقش خطأ أو صحة هذه
الأفكار والعمليات ولكننا نحاول رصد الخط العام لها.
ولكي نجيب عن السؤال
الثاني، فمن الأكيد أن سيناء لم تعد الوحيدة التي تعطي صورة ذهنية للمستمع
بخطورتها على الأجهزة الأمنية، وقد ظهرت مناطق أخرى تزداد مع مرور الوقت تمثل
خطورة على الجهاز الأمني والعسكري المصري، وربما تدرك القوى الأمنية والعسكرية ذلك
أكثر من غيرها حيث أصبح من النادر رؤية أفراد تلك المؤسسات وهي تسير في الشارع في
معظم محافظات مصر بزي عسكري. بالتالي مساحة الخطر تزداد جغرافيا مع الزمن، ويبدو
أن إحساس الأمان الزائف الذي يحاول النظام إظهاره للمجتمع لم يعد يجدي، وبدأ
الظهور العلني للتوتر والفزع من داخل تلك المؤسسات أمام الجماهير وهو تطور خطير
وكبير.
النقطة الثالثة
والخطيرة هي ابتعاد المجموعات المهاجمة عن التنظيمات التقليدية الجهادية مثل داعش،
حيث ما قامت به من التفريق بين الجنود والضباط في التعامل يشير إلى ابتعادها عن
الإطار الفكري لتنظيم الدولة، كما أن عدم إعلان جهة ما مسؤوليتها عن الحادث حتى
الآن أراه تطورا فكريا في أداء تلك المجموعات. كل هذه المقدمات تشير أننا أمام شيء
مختلف عما مضى وأن فكرة العمل المسلح تحرك من مساحة التنظيمات الجهادية التقليدية
إلى مساحة القوى المجتمعية التي قد تكون مؤدلجة ولكنها بشكل ما يمكن إطلاق قوى
شعبية عليها، وهذا "التطور" لو كان صحيحا ربما هو الأكثر أهمية في تاريخ
مصر الحديث على مستوى العلاقة بين النظام الحاكم والشعب.
إن التطور الحادث في
العمل التكتيكي والتنفيذي في العمليات ضد القوى الأمنية والعسكرية عبر الفترة
القصيرة السابقة لم يتأثر سلبا بالبطش الأمني ولا بالانتشار الأمني العالي ولا
بالاغتيالات في الشارع ولا بالاختطاف ولا بحرق وسرقة البيوت، حيث يحاول النظام بث
الرعب في نفوس الشعب المصري كله بهذه الأفعال، إلا أن ما يجري يشير إلى فشل كل تلك
الإجراءات، وربما أيضا يشير إلى أن هذه القوى الجديدة الصاعدة أصبحت غير قابلة
للتفتيت، وأن كل القوى القديمة التي تظن أنها ستبقى صاحبة الصوت الحاسم من عسكر
وقوى سياسية أخرى شاركت في انقلاب يوليو يبدو أنها تفقد الآن الكثير من أوراقها
التي اقتربت من الاحتراق الكامل.