حملة اعتقالات واسعة تطال دعاة ومغردين وإعلاميين في السعودية وفي الإمارات، وهي حملة تجد لها صدى واسعا على شبكات التواصل الاجتماعي خاصة. الحملة مفاجئة وهي تحدث في خضم عاصفة هي الأخطر في مجال الخليج العربي منذ حرب الخليج ومنذ ثورات الربيع العربي التي أعقبتها.
حصار قطر كان هو الآخر مفاجئا حسب تصريحات أمير الكويت مؤخرا وما كاد يسفر عنه من عمل عسكري ومن غزو دولة قطر بالقوة المسلحة.
اليوم تتعنت دول الحصار، وترفض كل أشكال الوساطة التي عرضت في قضية حصار قطر، سواء كانت وساطات عربية أو غربية أو وسطات داخلية. بل ويذهب إعلامها إلى درجات سحيقة من التردي والتطاول وانتهاك الحرمات بتوجيه مباشر من أصحاب القرار السياسي ومركز القرار.
في هذا الخضم المضطرب وفي سياق تشهد فيه المنطقة العربية توسع الأطماع الخارجية وتآكل أطراف الأمة بعد سقوط العراق وسوريا واليمن ومصر وخروجهم من المعادلة يخيم الخوف على منطقة الخليج من جديد.
التهديد اليوم ليس تهديدا خارجيا ولا عسكريا بل هو في الحقيقة تهديد داخلي يتم بأدوات داخلية وبعناصر داخلية، واعتقال الدعاة في السعودية والإمارات والشحن الإعلامي بين دول الحصار ودولة قطر وآخرها التلاسن الكبير في اجتماعات جامعة الدول العربية؛ يعكس حالة التشرذم العربية التي طالت مستويات غير مسبوقة.
هذه الحالة تمثل في مجملها حصيلة سياسية لقرار سياسي عربي تمثل أساسا في إعلان حصار قطر خلال شهر رمضان المنقضي. بناء عليه؛ فإن كل الأحداث التي أعقبت هذا القرار السياسي هي نتيجة مباشرة أو غير مباشرة له. الاحتقان الاجتماعي والانكماش الاقتصادي والشحن الإعلامي والتردي الحضاري ... كلها في الحقيقة نتيجة للفعل السياسي الكارثي الذي لا يزال الخليج يتخبط داخله.
من يستطيع أن ينكر اليوم حالة التوجس والترقب التي تعيشها شعوب المنطقة وهي ترى على يمينها ويسارها سقوط الدول العربية واحدة تلو الأخرى.
من ينكر حجم الانكسار والألم الذي يعتصرنا ونحن نشهد كل مذابح الثورة المضادة في حق الثورة والثوار.
من ينكر حجم الأسى ونحن نرى أشلاء الأبرياء في كل مكان بعد أن نجح الاستبداد العربي متحالفا مع القوى الاستعمارية القديمة في تدمير الأوطان وبيعها. لكن رغم كل هذه المحن التي تجعل من المنطقة العربية منطقة مفتوحة للصراعات والحروب والثارات لا يزال الفعل السياسي العربي متخبطا ومساهما بشكل كبير جدا في ما آلت إليه المنطقة من مآسي وكوارث.
اليوم تشهد الساحة السياسية العربية خطوات متسارعة وهرولة حثيثة نحو التطبيع المركب فهو تطبيع مع إيران وتطبيع مع إسرائيل وتطبيع مع الروس بل هو تطبيع مع كل القوى المعادية للأمة، لكن من جهة أخرى ومقابل هذا الانفتاح على الخارج والاستسلام لكل أنواع الابتزاز والتهديد تمعن الدولة العربية في التضييق على الداخل وفي كبت الحريات ولجم كل الأصوات المعارضة، بل وتطور الأمر في السعودية أخيرا بمعاقبة الصامتين أنفسهم.
هذا التخبط وهذا التناقض في المعايير بين الداخل والخارج هو الذي يساهم بشكل كبير في مزيد فصل النظام السياسي العربي عن قاعدته الشعبية من ناحية وفي تضخيم حالة الاحتقان التي تعاني منها كل دول المنطقة دون استثناء واحد. فقد كانت ثورات الربيع العربي منذرا ومؤشرا على المستويات التي بلغتها حالة الفساد في هرم الفعل السياسي وفي أدواته لكن يبدو أن الدرس لم يكن كافيا وها هو الفعل السياسي العربي يعود أبشع مما كان عليه.
الغائب الأبرز في كل هذا الخضم هي شعوب المنطقة التي إن هي طالبت بالإصلاح والتمثيل؛ فلن تجد آذانا صاغية وإن هي تحركت اتهمت بالإرهاب ومورست عليها كل أصناف القتل والإرهاب والترويع. هذه الشعوب التي بقيت إلى اليوم في ذيل الأمم وفي ذيل الحضارات تنتظر مصيرها المعلوم بعد أن فعل بها النظام السياسي العربي كل الأفاعيل.
إن فقدان شعوب المنطقة لكل ثقتها في النظام السياسي الحاكم وفي نخبها المعارضة على اختلاف مشاربها هو الذي يمثل أكبر تهديد لمستقبل الأمة برمتها.
إن غياب البوصلة وتكالب التهديدات الخارجية يضاف إليها سلوك القمع الداخلي المتواصل هو الذي يزيد من تأزم الوضع العام ويفاقم من قابليته للانفجار في كل حين.
لن نستطيع تجاوز هذه اللحظة الحضارية الحرجة ما لم نخرج من مربع الموت المحيط بنا، وذلك بكسر أحد أضلعه الصلبة سواء بتعديل الفعل السياسي، أو بإعادة تفعيل الفعل الشعبي بشكل يحد من حجم النزيف الكبير ويؤسس لمرحلة جديدة في حياة المنطقة وفي حياة شعوبها.