الاتفاق الأمريكي الروسي، القاضي بوقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا، في أول لقاء جمع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة الشعرين الأخيرة التي عقدت في مدينة هامبورغ الألمانية، فتح الباب على مصراعيه أمام قراءات وتساؤلات وتكهنات مختلفة حول الدلالات الزمانية والمكانية لهذا الاتفاق، وإسقاطاته المستقبلية على مجمل الأوضاع في سوريا، وكذلك العلاقات الأمريكية الروسية خلال الفترة المقبلة.
إيران الغائبة في الاتفاق كانت الحاضرة بقوة في أسبابه وجميع النقاشات التي تدور بشأنه، فهناك من يرى في الاتفاق تعزيزا للدور الإيراني في جنوب سوريا كما تقول المعارضة السورية، وأخيرا رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال زيارته لفرنسا، وأيضا ثمة من يقرأ الاتفاق على أنه بداية لتطويق نفوذ طهران في سوريا، انطلاقا من جنوبها.
بين الرأيين المتناقضين المختلفين، يبدو إيران نفسها قلقة وغير راضية عما حصل، وأنها لم تكن طرفا في المفاوضات التي جرت في العاصمة الأردنية خلال شهرين متتاليين سبقا لقاء بوتين ـ ترامب، وهذا ما ظهر جليا في تعليقات مسؤولين إيرانيين على الاتفاق، برز فيها جانب التحفظ، والريبة، والقلق، منها تصريحات الناطق باسم الخارجية الإيرانية "بهرام قاسمي"، الذي لمّح إلى عدم نجاح الاتفاق مادام لم يأخذ الحقائق على الأرض في الاعتبار حسب قوله، مؤكدا أنه يتضمن "نقاط غموض"، خاصة فيما يتعلق بالإجراءات الأمريكية الأخيرة في سوريا.
ثمة أسباب تقف خلف هذا التحفظ أو القلق، منها طغيان الاعتبارات الإسرائيلية على الاتفاق وتفاصيله، علما بأن المناورة السياسية "الإسرائيلية" لم تتوقف أبدا في رد الاتفاق ووصفه أنه يصب في صالح إيران، وكان آخرها خلال لقاء بنيامين نتنياهو الرئيس الفرنسي في باريس، بهدف الابتزاز وتحقيق مزيد من المكاسب والامتيازات. وكما أكد أيضا وزير الخارجية الروسي إن تل أبيب كانت تستشار في مفاوضات عمان، و"إن روسيا والولايات المتحدة الأميركية ستفعلان كل ما يلزم لأخذ المصالح الإسرائيلية بالاعتبار".
ومن تلك الأسباب أيضا، أن الاتفاق جاء في إطار مسار سياسي مختلف عن عملية أستانا التي تشارك فيها طهران إلى جانب أنقرة وموسكو، ثم أن إيران تنظر بريبة كبيرة إزاء مجمل اللقاءات الأمريكية الروسية، وتمخضاتها وانعكاساتها، حيث أن التقارب بين الطرفين قد يكون على حساب طهران، بينما التباين والتباعد بينهما لمصلحتها.
ومن عوامل التحفظ الإيراني، أن طهران تنظر إلى مجمل عمليات الهدنة كفرصة، يعيد من خلالها من تصفهم بالإرهابيين، قوتهم من جديد، وهذا ما أكد عليه الأدميرال علي شمخاني سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني مؤخرا بعد استقباله ألكسندر لافرنتيف مبعوث الرئيس الروسي الخاص حول سوريا، بالقول "استغلال بعض العناصر الإرهابية فرص الحوارات السياسية والهدنة لاستعادة قوتها أمر مقلق".
بشكل عام، إيران تميل إلى الحسم ميدانيا كما حدث في حلب، وأن سير الأحداث بعد استعادة قوات النظام السوري السيطرة على هذه المدينة، لم يكن وفق ما يحبذه صانع القرار الإيراني المسؤول عن الملف السوري.
واستشعر الجانب الروسي الغضب الإيراني مبكرا، فأوفد الرئيس فلاديمير بوتين مبعوثه الخاص حول سوريا إلى طهران سريعا لتطمين الإيرانيين وامتصاص غضبهم.
وفق تقييم الأوضاع الميدانية، يبدو أن وقف اطلاق النار يصب في مصلحة كل من الأردن، والكيان الصهيوني بشكل رئيسي، وأنه يمهد لإنشاء منطقة عازلة ينشدها الكيان على الحدود السورية الأردنية الفلسطينية، وفي المقابل يستهدف بالدرجة الأولى الوجود الإيراني وحزب الله اللبناني في المنطقة، ولاسيما في المناطق المحاذية للجولان المحتلة في ظل الحديث عن وجود خطة إيرانية لتأسيس جسم مقاوم فيها ضد احتلال الجولان، والتصدي لخط بري متواصل المراد إنشاؤه بين العراق، وسوريا ولبنان.
لن يكون من نتائج هذا الاتفاق ردع "إسرائيل" من اختراق الأجواء السورية، وشن غارات بين الحين والحين ضد ما تقول أنه قوافل للسلاح متجهة من سوريا للبنان حسب قول مجلة "مباط عال" الصادرة عن "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي.
بقدر ما يجعل الاتفاق الأردن و"إسرائيل" رابحين منه، فشله أيضا سيجعل منهما خاسرين كبيرين، وإيران الرابح الأكبر.
عن إسقاطات اتفاق وقف اطلاق النار على مجمل النفوذ الإيراني في سوريا مستقبلا، وأنه هل يشكل بداية حقيقية لمواجهة هذا النفوذ بمباركة روسية، يمكن القول أنه من المبكر الحديث عن مثل هذه الاستنتاجات، لأنه ببساطة أي مواجهة أمريكية لدور إيران في سوريا بمعزل عن تسوية مسبقة مع روسيا أمر غير ممكن، والولايات المتحدة الأمريكية تعرف أن ذلك يضعها في مواجهة مع روسيا، وهذا ليس المطلوب أمريكيا، ولا إسرائيليا. ناهيكم عن مخاطر كبيرة تترتب على الخطوة كهذه، منها تعاظم فرص اندلاع مواجهة أمريكية إيرانية في أكثر من منطقة جغرافية، توجد فيها القوات الأمريكية في مرمى النيران الإيرانية.
وفي هذا السياق، لا يعني اتفاق وقف اطلاق النار وجود تفاهم أمريكي روسي على معالجة الوضع السوري وفق استراتيجية متفقة عليها بين الجانبين. إنما الاتفاق جاء في سياق رغبة الأمريكيين والروس لمعالجة حالة ناشئة في جنوب سوريا باتت تقلق الحليف الإسرائيلي المشترك الذي يحظى بعلاقات استراتيجية مع الجانبين ولو بدرجات متفاوتة، وهنا نتحدث عن تعاون مشترك لمعالجة وضعية خاصة.
على صعيد العلاقات الأمريكية الروسية، يشكل هذا التعاون مؤشرا إيجابيا قويا على أن منحى هذه العلاقات في عهد الرئيس ترامب سيكون مختلفا عما كان عليه في عهد الرئيس أوباما، وعلى الأغلب تلحقه مؤشرات مماثلة خلال الفترة القليلة المقبلة، وهو دلالة على أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تريد أن تكون لقاءاتها مع الروس شكلية دون مغزى ومضمون، إلا أن شكل هذه العلاقات يحددها بالدرجة الأولى مصير أزمة دونالد ترامب الداخلية تحت عنوان "التواطؤ مع موسكو"، التي أفقدته إلى حد كبير القدرة على رسم سياسته الخارجية الشرق أوسطية بالذات في مناطق التنافس مع روسيا، مثل سوريا.
لذلك، ما لم ينته ترامب من أزمته الداخلية التي لا يتوقع أن تزول عاجلا، وفي ظل انقسام أركان إداراته في استراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية، واستشراء العداء لروسيا بين الأمريكيين، يعصب الحديث عن تقارب أمريكي روسي حقيقي، ترتد آثاره على مجمل الأوضاع في سوريا، ومنها الدور الإيراني.
الخلاصة أن الإدارة الأمريكية الحالية اليوم لا تتعامل مع الحالة السورية ككل وفق رؤية شاملة وسياسة متكاملة، بل حسب مبدأ التجزئة والتعامل مع مستجدات طارئة أو أوضاع خاصة، مثل استخدام السلاح الكيمياوي الذي جعل منه خطا أحمر، أو الوضع الحساس في جنوب سوريا الذي تعامل معه بالاتفاق مع الروس، وكذلك قصف قوات موالية لإيران في المنطقة المحيطة بقاعدة التنف.
عليه، لا تخرج السياسة الأمريكية في التعامل مع النفوذ الإيراني في سوريا عن سياق خطوط رسمتها الإدارة الأمريكية في التعامل مع وقائع ومستجدات تشكل خطرا أو تهديدا على المصالح الأمريكية، وهذا قاعدة ثابتة تقريبا في السياسة الأمريكية ولا ترتبط كثيرا بهذه الإدارة أو تلك.
إيران التي نجحت مع حلفائها في فرض حالة ميدانية أسقطت الخيار العسكري للإطاحة بالنظام السوري، وجعلت من كان ينادي ليل ونهار بضرورة رحيل بشار الأسد، أن يعتبره جزءا من مسار الحل السياسي، تفهم هذه المعادلة جيدا، ولذلك هي تسير في مشروعها وخططها ميدانيا دون كلل وملل، لكسب مزيد من الأوراق على الأرض، وفرض وقائع ميدانية على أي تسوية سياسية قد تلوح في الأفق، تحمي مصالحها في أي تسوية سياسية مستقبلية للأزمة السورية.
وفي حال توفرت شروط التقارب الأمريكي الروسي، وانتهى إلى "الصفقة الكبرى" التي يتحدث البعض اليوم أنها تحصيل حاصل خلال الفترة المقبلة، استبعد أن يكون هناك تراجع كبير في التحالف الروسي الإيراني في الملف السوري. مناورات الغزل الأمريكي الروسي في الملف السوري ستستمر وبشكل متبادل، إلا أنه من المستبعد تجاهل الدور الإيراني في الملف السوري.
رغم ذلك، ثمة مؤشرات قوية تظهر أن الإدارة الأمريكية تعكف على رسم استراتيجية متكاملة في مواجهة إيران، عليه يتوقع أن تصعّد هذه الإدارة خلال الفترة المقبلة ضد طهران في عموم المنطقة وفي أكثر من ملف، طبعا مع مراعاة حساسية الساحات ومقتضياتها، مثل الساحة السورية بسبب الدور الروسي البارز فيها.
وفي الختام، لا بد من التنويه بأن الملف السوري يمر اليوم بمرحلة حساسة، بكل ما تعنيه الكلمة، حيث إن داعش العدو المشترك لجميع الأطراف يكون قد انتهى، حينئذ علينا أن نراقب الوضع عن كثب، إن كان يتجه نحو عملية سياسية حقيقية تضع حدا للأزمة السورية، أو نحو منعرجات خطيرة تعيد إنتاج الأزمة في قوالب وأشكال جديدة أكثر خطورة.