قضايا وآراء

"تأميم" الإسلام.. عندما يكون الإصلاح الديني مشروعا سياسيا

عباس محمد صالح
1300x600
1300x600
ظلّ الجدل حول علاقة الدين بالدولة والموقف من حركات الإسلام السياسي؛ مسيطرا على تفكير وخطابات النخب والطبقات السياسية في الدول العربية، ومحركا لتدخلات القوى الأجنبية التي ترتبط بمصالح جيواستراتيجية مع العالم الإسلامي، والوطن العربي على وجه الخصوص.

نظريا، كان مقصود علمانية الدولة يعني "الحياد إزاء الأديان وضمان حرية ممارسة المواطنين لشعائرهم دون تمييز قائم على الدين"، بيد أن الدولة العلمانية - في طورها الراهن - تسعى لتأميم الدين والاستحواذ عليه وتنظيفه لخدمة سياساتها، لا سيما مع الموجة الثانية من الثورة المضادة.

طرحت مسألة "التجديد الديني" من الخارج - أي خارج الأُطر التقليدية لتبني وتداول وإنتاج التقاليد والممارسات الدينية - عقب الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. فبموازاة الحرب العالمية على الإرهاب عبر الغزو والاحتلال المباشرين، انطلقت حرب أخرى لا هوادة فيها، ولكن على عقول وقلوب المسلمين أو "حرب الأفكار".

وعلى ذلك، كانت هناك توجهات لدى الدول الغربية لإعادة "تسكين" الإسلام بمحاربة التوجهات العنيفة وسط المسلمين - طبعا - بالخلط المتعمد بين الجذور السياسية للإرهاب وأسبابه الحقيقة، والدين في حد ذاته. ولذلك كانت هناك مشاريع دولية للحد من النزعات المتطرفة وتبنت عدد من الدول سياسات وطنية متأثرة بهذا المناخ الدولي، إذ عُرفت بـ"D-radiclisition".

وتلقفت النظم العربية تلك الإشارات، ليس للحد من خطورة نزعة الردكلة على تماسك دولها ومجتمعاتها، ولكن لتأكيد تبعيتها وتقديم خدماتها للخارج من جهة، والانخراط في ممارسات قمعية ضد جميع مواطنيها، فضلا عن قيام بعضها بالمهام القذرة نيابة عن "العالم الحر" الذي رغم حديثه عن عولمة القيم الغربية كقيم كونية، كالعدالة والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والكرامة والإرادة المستقلة، لكنه ظل يتسامح مع كافة أشكال القمع والإرهاب، خاصة إذا ما اقترفت في "بيئات غير ليبرالية"!

في الوطن العربي، حيث سيطرت نظم استبدادية وفرضت إغلاقا تاما للمجال السياسي، لم تُقصِ فقط الأحزاب والقوى الاجتماعية من المجال العام وتهيمن عليه فحسب، بل نجد - في بعض الحالات - أن الهيمنة على المؤسسات الدينية كان سلوكا متأصلا لدى هذه النظم حتى قبل ظهور أنماط التدين التي نشرتها الحركات الإسلامية التي تتذرع بها هذه الدول القمعية اليوم.

ومع ذلك، كانت السيطرة التامة على المجال الديني أمرا صعب المنال. ومن النماذج التي يتم التباهي بها في نجاح الدولة في تحديث الدين، مصر الناصرية وتونس البورقيبية، ففي النموذج البورقيبي مثلا - نموذج "الاستبداد الحداثي" - نجد أن نتاج هذه التجربة اليوم بروز الإسلام السياسي بقوة، بشقيه المعتدل كحركة "النهضة" أو التطرف العنيف وتزايد أعداد الجهاديين التوانسة في صفوف تنظيم "الدولة" اليوم، وما ذلك إلا ردّ فعل على تلك السياسات التأميمية للحياة الدينية وفرضها قسرا عبر يد الدولة الغليظة دون إرادة الشعب.

رغم فشل محاولات تأميم الإسلام عبر السياسات الدينية للعلمنة، غير أن عزم الدول وتصميمها على أوضاع المجتمعات والشعوب لم يتوقف، بل تفاوتت في الدرجة والنوع تبعا للنظم المختلف؛ فالموجة القوية تأميم الإسلام الحالية، أي اعتماد تفسير أحادي تفرضه الدولة، هي تجسيد لردود الأفعال على زلزال الربيع العربي وبروز تيارات الإسلام كقوى سياسية مؤثرة... في الوقت الراهن، توفرت لهذه الموجة عوامل ودوافع جديدة منها:

أولا، وجود سياسات إقليمية جديدة لاستئصال شأفة تيارات الإسلام السياسي والتي تعتبر الجذور المغذية لثورات الربيع العربي، وذلك عبر سياسات لمحاربة التوجهات الدينية وفرض توجهات بديلة عنها لا تشكل أي خطر على النظم بهذا الإقليم.

ثانيا، تشجيع بعض القوى الدولية، وبل تحريضها، على هندسة التقاليد الدينية بفرض توجهات دينية معينة بما يخدم مصالح تلك القوى، بعد أن فشلت في إنفاذ سياسات الإصلاح الديني بنفسها.

تتمظهر التوجهات الجديدة في تأميم الإسلام في محاولات على النحو التالي: إعادة تشكيل التوجهات المذهبية (إعادة تعريف أهل السنة والجماعة)، وتعديل المناهج الدراسية، وإحياء عقائد ومذاهب لموازنة التفوق الديموغرافي للأغلبية السائدة، وتذكية الصراعات داخل الإسلام السُني، وتكريس فرضيات زائفة كعدم تسامح التيار السائد (المقصود تحديدا الإسلام السُني) مع الأقليات، وشيطنة بعض التوجهات (السلفية والاخوان المسلمين)، ووضع اليد على المؤسسات الدينية (المساجد، الأوقاف، مؤسسات الإفتاء...)، وفتح المجال أمام مؤسسات وأفراد للتبشير بتوجهات دينية مفروضة، ودعم وتأسيس "منصات" لإغراق السوق الديني، وإعادة قراءة التراث الديني بطرق متعسفة وموجهة لتأكيد وفرض مصالح وتوجهات سياسية تصب في خدمة النظم والدول (مثلا فتوى ماردين، مقررات مؤتمر الشيشان..)، فرض بعض التوجهات المذهبية عبر إجراءات تفرضها الدول - كإسقاط خانة الديانة - لحماية توجهات أقلوية بعينها (كالبهائيين والأحمدية مثلا).

إن مساعي تأميم الإسلام ليس محكوم عليها بالفشل فحسب، وإنما ستكون نتيجتها عكسية تماما؛ فهي أولا تفتقر لدعم مجتمعات المتدينين ومن يتبنونها لن يكونوا متحمسين لها، فضلا عن كونها مفروضة عبر مؤسسات الرسمية غير المؤتمنة على بيضة الدين.

كذلك، هذا "الإسلام المؤمم" لن يكون بأي حال من الأحوال إصلاحا دينيا، على غرار تجارب الإصلاح الديني في التاريخ، كما حدث في أوروبا مثلا. والأهم، أن أدوات الحداثة، كوسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الحر، وفّرت منصات للمقاومة الشاملة لمثل هكذا سياسات، وبالتالي ومع وجود مؤسسات وشخصيات لها قدر كبير من المصداقية في صف مواجهة هذه الدينية الجديدة المفروضة من أنظمة سياسية ومن الدول الكبرى، سيقوِّض أي مصداقية لها، كما ستسرع بنهاية تلك السياسات. كما أن ارتباط التوجهات الجديدة لتأميم الإسلام بنظم لها تاريخ طويل من الفشل وممارسات ومواقف مخزية؛ يجعل من تلك التوجهات مفضوحة بشكل كبير.

علاوة على كل ذلك، فإن أسلوب "الصدمة والترويع" - لو استعرناه من المجال السياسي - من خلال التلاعب بمفردات الدين وحقائقه التاريخية المتوطنة في العقل الجمعي، سيولد نفورا عاما لدى الرأي العام، وهو المستهدف بالإسلام الجديد!

لا يمكن إنكار وجود سياسات للتطييف، أي بروز توجهات "طائفية" في كثير من الدول والمجتمعات، ولكن هذه "الطائفية الجديدة" ليست نتاج المجتمعات المحلية أو نزعة متأصلة فيها، ولكنها نتاج لعوامل خارجية.

تاريخيا، كان التعايش السلمي والتسامح وفق إرث هذه المجتمعات هو السائد ويشكل سمة من سماتها الحضارية؛ فالأغلبية - التي تُلام اليوم وترمي بعدم التسامح - ظلت تتعايش مع كافة أنواع التعدد المذهبية والدينية والعرقية والإثنية، ولكن هذه الطائفية الجديدة يمكن تفسيرها كنتاج وللمفارقة للحداثة كالغزو والإستعمار والعلمنة القسرية أكثر منه عوامل ذاتية كالانتماءاتها العقائدية أو الطائفية، أو حتى الثقافية لهذه المجتمعات، كما تذهب بعض المدارس الحداثوية.

وعندما يكون "الإصلاح الديني" متماهيا مع المشاريع السياسوية التسلطية سيكون محكوم عليه بالفشل، وسيؤدي إلى ردود فعل تُشرعِن التوجهات المتطرفة والعنيفة، التي سينظر إليها على أنها الحامي والمدافع عن الدين في وجه محاولات المس بقداسته.

ولن يتحقق أي إصلاح ديني، سواء كان عبر الدول أو غيرها، إلا بغل أيادي النُظم العابثة وضمان حياد الدولة، بل وضرورة ابتعادها تماما عن الحقل الديني وتركه لتفاعلاته المستقلة.

ما خبرناه من تجارب لم تكن دولا علمانية تقف على مسافة واحدة من جميع مجتمعاتها الدينية، كما يفترض نظريا بمفهوم الدولة العلمانية، بل كانت دولا علمانية متضخمة، أو "ليفاثيان"، حيث ابتلعت الجميع: المتدينين وأبناءها الحداثويين في كثير من الحالات، وهي بذلك تخلت عن وظائفها لتتفرغ لسياسة "سيزيفية" لهندسة عقائد مواطنيها عبثا.

ونتيجة لهذا الفشل الذريع، كان نموذج "تدين الدولة العلمانية" - كما يذهب آصف بيات في كتابه "ما بعد الإسلاموية، التوجه المتغير للإسلام السياسي"، وهو يتحدث عن تعرجات الإسلاموية وما بعدها في مصر؛ ذلك أن نخب الدولة العلمانية التدخلية أسالت أنهُرا من الحبر لنقد نموذج "الدولة الإسلامية" المتخيل لتبرير اصطفافها إلى جانب النظم التي رفعت شعارات التنوير والحداثة والعقلانية، وهو ما أسفر عن استنزاف طاقات الجميع لعقود بما في ذلك الدولة الوطنية نفسها!

ولو افترضنا جدلا أن الإسلاميين يعتبرون في الواقع عِماد سوق المنتجات الدينية، فإن أي إصلاح ديني يستهدفهم أو بدونهم، لن يُكتب له النجاح، وسوف يظلون في قلب المعادلة الدينية والسياسية حتى يُصار إلى إدماجهم في الحياة العامة وتتاح لهم فرص التطور تدريجيا، لكي يتحرروا من "الغيتو" الديني الذي هم فيه إلى فضاء أوسع؛ وبالنتيجة سيصب هذا التطور لدى الإسلاميين - إن تم - في صالح "الإصلاح الديني" بشكل تلقائي.

كذلك، وفي هذا الصدد، من مصلحة النخب الحداثية مراجعة تاريخها ونقد ممارساتها؛ فهي عملية مطلوبة من الجميع، ليس من تيارات الإسلام السياسي وحدها، بعدها سيكون الخيار الطبيعي أمام الجميع قيام "كتلة تاريخية" قد تقود إلى ديمقراطية تضمن حقوق ومصالح الجميع، بحيث تقوم التيارات الإسلامية كقوى جماهيرية بدور مشابه لما قامت به حركات "لاهوت التحرير" في دول أمريكا اللاتينية، عندما ساعدت بتعبئة الطاقة الروحية المحركة للجماهير لتصب في صالح دعم التيار الرئيس للحركات التي هدفت لتأسيس نظم للعدالة الاجتماعية في تلك البلدان.

لا يوجد أي قدر من العقلانية والرشد في تبني سياسات تجريفية ضد التدين الديني، أو افتراض أن "الإصلاح الديني" يمكن فرضه فرضا من خلال الأجهزة القسرية للدولة، أو عبر المشاريع التي ترّوج لها الدول الكبرى.

يجب أن يعود مشروع الإصلاح الديني إلى سياقه الطبيعي: كحاجة محلية وداخلية نابعة من قناعات حقيقة وعملية تتطلب عملا صبورا وإرادة ذاتية.
التعليقات (2)
أين القانون المنظم والمسطرة
الخميس، 20-07-2017 02:16 م
السعودية مثلا دستورها القرأن ،لكن أين السطرة والقانون التي تنظم الإختصاصات،فبأي مسطرة وقانون أو تشريع سعودي يفتي ويصرح مفتي السعودية ومن موقع مؤسسته ضد قطر،الدستور هو القرأن والمذاهب كثيرة وعلماء ديننا الحنيف بتوجهاتهم المتعددة فأين القانون المكتوب والمسطرة التي تفرض على الجميع العمل عليها.
بدون قانون ومسطرة أعماله
الخميس، 20-07-2017 01:50 م
السلط الحاكمة في الدول العربية تتعامل مع الشرع الإسلامي بدون قانون كتبته،هي سياسة خارج قانون السلطة نفسه،من هي السلطة العربية كتبت قانون ومسطرة للتعامل مع الشرع الإسلامي،فمثلا ممكن فعلته بالأحوال الشخصية،لكن لم تفعله مع المؤسسات الدينة التي تعترف بها أي لم تكتب وتمسطر لهذه المؤسسات كالسلطة التشريعية والقضائية والتنفذية والشركات الإقتصادية وكالمؤسسات الصحفية،من هذه الثغرة يتم التلاعب،فمثلا الأزهر والإنقلاب،على أي قانون الطيب إستند إليه ورخص له للتصرح مع السيسي للإنقلاب،والأزهر معرف بالدستور للإنقلاب وبعهد مرسي ولكن دون كتابة ومسطرة وجوده.