جمعت المملكة العربية السعودية زعماء وقادة الدول العربية والإسلامية ما عدا سوريا وإيران على شرف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أول زيارة خارجية له بعد توليه منصب الرئاسة. وتصدرت "مواجهة إيران" جدول أعمال القمة، إضافة إلى مكافحة الإرهاب.
ويمثل هذا المشهد منعطفا في الصراع الإقليمي، ونجاحا للدبلوماسية السعودية في الوقت ذاته، حيث أنها تمكنت من جمع زعماء الدول العربية والإسلامية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في قمة بهذا المستوى، والتي تحمل في طياتها رسائل تحد كبيرة للجارة الإيرانية.
بعد رسائل عديدة، بعثها هذا المشهد إعلاميا، يبقى السؤال المنطقي عن امكانية أن يكون له ترجمة حقيقية على أرض الواقع، وكذلك عن نتائجه المستقبلة للسعودية مقارنة بما حصل عليه دونالد ترامب حالا؟ وأنه هل ستكون تلك النتائج بمستوى الطموحات السعودية في مواجهة إيران؟ وكيف ستكون أشكال هذه المواجهة؟
الاجابة على هذه الأسئلة تكمن في قراءة مستفيضة ومعمقة لأحداث القمة ومخرجاتها، ومعرفة الأهداف الأمريكية والسعودية على حدء سواء. وكذلك إطلالة دقيقة على الظروف الدولية والإقليمية الراهنة بتعقيداتها ومتغيراتها.
فيما يتعلق بالمخرجات، لا شك أن المستفيد الأبرز من القمة هو الضيف الأمريكي والضيف الإسرائيلي الغائب، بدليل أن الضيف حصل على ما يريده نقدا وعاجلا من خلال صفقات بالمليارات الدولارات، والمضيف كان نصيبه أقوال معسلة ووعود عائمة، وتهديدات ضد إيران، دون إسنادها إلى أفعال وشروط مصحوبة بجدول زمني محدد. على الأقل هذا ما ظهر حتى هذه اللحظة.
فما أراده ترامب من الزيارة والقمة قد تحقق، ولعل تغريدته على التويتر خير دليل على ذلك، حيث قال: "إحضار مئات مليارات الدولارات من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة يعني وظائف، وظائف، وظائف".
هذه التغريدة تبين الأهداف التي كان يرمي إلى تحقيقها الرئيس الأمريكي من الزيارة والقمة، حيث أنها تجارية بامتياز، وهي تحققت فعلا بعد توقيعه على أضخم صفقات في تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية.
أما السعودية، لا شك أنها ستستفيد من الزيارة، لكن استفادتها جزئية من ناحية، وخسارة من ناحية أخرى، فما يمكن أن تحصل عليه الرياض هو تجديد ضمان الدعم الأمريكي في ملفات، وخاصة في اليمن، و...الخ. والخسارة تكمن في أن القمة مثلت جسرا للتطبيع مع إسرائيل تحت طائلة التخويف من إيران، مما سيعزز رواية الأخيرة حول طبيعة الأحداث الإقليمية منذ يومها الأول، بأنها مؤامرة دولية إسرائيلية. كما أن ذلك سيتسبب بشرخ عميق في الثقة بالسعودية في العالمين العربي والإسلامي كدولة راعية للقضايا الإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ويضع علامة استفهام كبيرة على دورها المستقبلي في هذا المجال.
وبينما وسم الرئيس الأمريكي ترامب في خطابه "حماس" بالإرهاب في بلاد الحرمين الشريفين، التزم القادة الصمت، "والصمت علامة الرضا"، حيث وفي فقه الأولويات يصبح تعليم الضيف الأمريكي بروتوكول شرب القهوة، أولى من تعليمه أدب السياسة عند الحديث عن تيار ولا أقول فصيل مقاوم مثل حماس.
القول إن الزيارة لها نتائج جزئية للسعودية، لأن ما سيتحقق لها يستبعد أن تكون بمستوى طموحها، والثمن المدفوع، حيث لا يخفى على أحد أن الرياض تحاول منذ فترة طويلة استدراج واشنطن لمواجهة عسكرية مع طهران، لكن لا يبدو أنها نجحت في ذلك، والدليل على ذلك ما جاء في القمة نفسها، وعلى لسان الضيف الأمريكي المدلع، إذ قال "إن دول الشرق الأوسط لا يمكنها أن تتنظر لكي تدمر القوة الأمريكي العدو بالنيابة عنهم".
المدلول الواضح لهذا التصريح، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد الخوض في مواجهة عسكرية مع إيران نيابة عن أحد، وهذا يؤكد أن مثل هذه المواجهة غير وارد في الاستراتيجية الأمريكية كمخطط سابق في الوقت الحاضر، إلا إذا فرضتها تطورات الميادين العسكرية في الشرق الأوسط.
لكن ذلك لا يعني أن واشنطن لا تريد حدوث هذه المواجهة بين طهران والرياض، وإنما ما قاله ترامب له مدلول خطير في هذا السياق، وهو دفع السعودية باتجاه هذه المواجهة، عبر تصدير هذا الكم الهائل من الأسلحة، وعسكرة كل شيء في الشرق الأوسط، كما أن ثمة مؤشرات تؤكد أن واشنطن وموسكو تدفعان باتجاه تأزيم العلاقة بين البلدين وربما تفجيرها تحت سقف محدد، لحاجة في نفس يعقوب.
بموازاة هذه السياسة ومقتضياتها، لا يمكن أن نغفل عن حقيقة، أنه بقدر ما يحرص رجل الأعمال دونالد ترامب على تحقيق مكاسب تجارية هائلة من السعودية من خلال تعزيز سياسة "إيرانوفوبيا"، أيضا لا يريد أن يخسر السوق الإيراني، حيث بينما رفع اللهجة والسقف ضد إيران في الرياض، أظهرت إدارته عمليا وفي صمت مثير للدهشة أنها ترغب في التجارة مع طهران، والدليل على ذلك أن الأخيرة وقعت على صفقتين مهمتين مع شركة بوينغ الأمريكية تقدر بـ 22 مليار دولار لشراء طائرات منها بعد أقل من شهرين من تنصيب ترامب، دون أن يعترض الأخير على الصفقة أو يسعى لإلغائها.
انتهاج هذه السياسة من قبل دونالد ترامب مع الخصمين الإقليميين السعودية وإيران في آن واحد، يذكرنا بمثل شعبي إيراني يقول: "الحصان يأكل من العليقة والحظيرة في وقت واحد".
فضلا عما سبق، يترتب على سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة القاضية بتجاوز مرحلة التدخل غير المباشر إلى التدخل المباشر في المنطقة، تصاعد وتيرة اشتباك المصالح مع طهران أكثر من أي وقت مضى، ولاسيما في مرحلة ما بعد داعش في سوريا والعراق. هذا الاشتباك لا صلة له بالوضعية العدائية في العلاقات الإيرانية السعودية، رغم تأثيره في توطيد أواصر التعاون بين واشنطن والرياض أكثر من قبل.
هنا المتوقع أن تتبع الإدارة الأمريكية آليتين لمواجهة طهران، هما:
أولا، فرض مزيد من العقوبات تحت عناوين وذرائع مختلفة، منها منع التجارب الصاروخية البالسيتية، وقضايا حقوق الانسان، ودعم "الإرهاب".
اليوم، ورغم تلك الذرائع وبسبب الاتفاق النووي، فإن قدرات الولايات المتحدة الأمريكية في فرض ما تريده من العقوبات ليست كالسابق، وهي محدودة، اللهم إذا أرادت إلغاء هذا الاتفاق، ولا أظن أن ذالك وارد حاليا، كما أن من شأن هذه العقوبات أن تستقطب غضبا شديدا من الحلفاء الأوروبيين، تدفعهم لرفض التعاون مع واشنطن في تطبيق هذه العقوبات.
ثانيا، التركيز على تحجيم دور إيران الإقليمي، وبالذات بعد التخلص من داعش، ولاسيما في سوريا والعراق، وذلك بطريقتين:
الأولى، عبر الدفع بالقوة العربية الإسلامية التي أعلن في قمة الرياض أن قوامها 34 ألأف جندي إلى سوريا والعراق، هنا الهدف ليس إيران وحدها، بل استنزاف الجميع، وانهاكهم في الأرواح والأموال والطاقات.
والثانية، أن تقوم الإدارة الأمريكية بأعمال مباشرة تتصدى فيها للقوات الموالية من إيران بين حين لآخر في سوريا ولاحقا العراق، دون أن ترتقي هذه السياسة إلى القيام بحرب ضد إيران. وفي الوقت ذاته، فإن السعي الأمريكي لتحجيم الدور الإيراني في سوريا تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، لا يعني بالضرورة اعتزاما أمريكيا للإطاحة بالنظام السوري. لان ذلك على الأغلب سيكون وفق صفقة تفاهمات كبيرة بين روسيا وأمريكا، تنسحب على حلفاءهما بعدها.
هذ التصعيد الأمريكي ضد إيران في المنطقة وبالذات في سوريا، وإن تحقق رغبة سعودية، لا يستهدف حل الأزمات وإنهاء المشاكل، وإنما إدارتها، وأنها تأتي بالدرجة الأولى لمصحلة إسرائيل، وضمان أمنها، وتأمين محيطها، باعتبارها ثابت من الثوابت الأمريكية الداخلية والخارجية.
الأثمان التي يريدها دونالد ترامب من السعودية مقابل هذه السياسة التصعيدية ضد طهران، والتي قلنا إنها تأتي نتيجة اشتباك المصالح، هي: دفع جزء من الكلفة المالية للتواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، وتدعيم الاقتصاد الأمريكي، والمشاركة الفعلية بقوات في ما يسمى بعملية مكافحة الإرهاب، وكذلك التطبيع مع إسرائيل.
عليه، فإن عملية التطبيع تتطلب أن يبقى الوضع على ما هو عليه بين إيران وجيرانها وبالذات السعودية، وانحداره نحو أكثر عداء، لكي تكتمل خطة التطبيع مع إسرائيل. هنا ليس واردا في السياسة الأمريكية القيام بعمل يقلل مما يُعتبر الخطر الإيراني إلى حد كبير، قبل تحقيق هذا التطبيع بشكل كامل، وحتى بعده أيضا. المطلوب أن لا يشهد الوضع العدائي القائم تغييرا كبيرا لصالح أي من الطرفين السعودي والإيراني، ليبقى هذا الواقع الاستنزافي قائما لتحقيق غايات عديدية، إلى أن تصل تصفية القضية الفلسطينية إلى مراحل متقدمة بعد تضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية تحت عنوان مكافحة الإرهاب، ولعل بمشاركة عربية قوية هذه المرة في إطار تفاهمات مشتركة مع إسرائيل لدرء التهديدات المشتركة.
الخطأ الإستراتيجي الذي ترتكبه السعودية اليوم، أنها تضع كل البيض في سلة ترامب الذي يعيش أوضاعا داخلية صعبة في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب وصول ملف علاقاته المشبوهة مع روسيا إلى مراحل قد تنتهي إلى عزله، كما أن فشله في التعامل مع كوريا الشمالية، ومطاطية تهديداته ضدها دون تنفيذها، بينما بيونغ يانغ تواصل تجاربها الصاروخية النووية باستمرار، يضع علامة استفهام كبيرة أمام جدوى تهديداته وحربه الكلامية ضد طهران.
وفي الوقت نفسه، فإن المعضلة الأخرى أن شرخة عميقة تعتري العلاقات الأمريكية مع أوروبا وبالذات فرانسا وألمانيا، يتوسع بيكارها يوما بعد يوم في عهد الرئيس ترامب، وتحول دون بلورة اجماع دولي ضد إيران على غرار ما حصل في عهد الرئيس أوباما والذي انتهى إلى الاتفاق النووي، وبعده تحول إلى توافق دولي معها.
كما أن التحالف العربي والإسلامي الذي تشكل تحت حجة "مكافحة الإرهاب"، لكن له مآرب أخرى، سيصطدم بعراقيل كبيرة عند اتخاذ خطوات عملية مشتركة ضد إيران بسبب تشابك المصالح بين بعض أعضائها وإيران، فعلى سبيل المثال، دولة كالإمارات التي يقوم إعلامها اليوم بهجمة شرسة على قطر لتصريح نسب لأميرها حول ضرورة اتباع سياسة التعاون مع إيران بدل معاداتها، تربطها بالأخيرة مصالح إقتصادية قوية تقدر بأكثر من 17 مليار دولار سنويا، سيكون من الصعب عليها القبول بما من شأنه التضحية بهذه المصالح.
ومن ناحية أخرى، فإن دول وقوى مثل باكستان، وكما صرحت مؤخرا مصادر باكستانية متعددة، تبدي خشيتها من أن يتم توظيف التحالف العسكري "الإسلامي" الذي تقوده السعودية لمواجهة إيران، ففي حال تبنى التحالف هذا التوجه، ستعتريه خلافات تعرض استمراره لخطر وجودي.
أما فيما يتعلق بإيران، يبدو أنها وبالرغم من قلقها من الانجرار إلى المواجهة مع السعودية، واجهت تحدي قمة الرياض بمزيد من التحدي، جاء على لسان قائدها، إذ وصفها بالبقرة الحلوب لأمريكا، وآيلة للسقوط والزوال.
كما أن القمة والزيارة لم تشغلا طهران عن مواصلة أعمالها، فبينما كان ينشغل الزعماء في القمة في الحديث ضدها، كانت ترد على ذلك بفعل على الأرض، من خلال تقدم القوات الموالية لها على الحدود السورية العراقية لإنشاء خط بري متواصل.
خلاصة القول إن قمة الرياض تشكل منعطفا خطيرا في تاريخ المنطقة، لإدخالها في مرحلة استنزاف جديدة أقسى من سابقاتها، وسيطال هذا الاستنزاف الجميع بما فيهم المشاركون في القمة. ثم المتوقع في المرحلة المقبلة أن تستعر الحروب الاستنزافية الصغيرة التي تشهدها المنطقة العربية هنا وهناك، وتتورط فيها دول جديدة، وسط تأزيم الأمور أكثر من قبل مع إيران، قد يرتقي إلى مواجهة معها، لكنها تحت سقف محدد سترسمه المصالح الأمريكية والروسية، ودون أن يحدث خللا كبيرا في توازن القوة الحالي في المنطقة، لتبقى شماعة "إيرانوفوبيا" قائمة، وخلال تلك الصراعات والتجاذبات والمواجهات، سيكون العمل جار على قدم وساق، لتطبيع حقيقي مع اسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية، والمقاومة المدافعة عنها.