بات واضحا أن الحملة الإعلامية التي شنتها وسائل إعلام سعودية وإماراتية ضد قطر ليست مجرد زوبعة، أو عمل عابر، بل هي جزء من معركة سياسية وتموضعات جديدة في السياسة العربية، والخليجية تحديدا.
لم يشهد الإعلام الخليجي تحديدا مثل هذا التراشق في أشد لحظات الخلاف بين دوله، حيث حافظت دول الخليج على "ميثاق شرف" غير مكتوب، يمنع الإعلام الخليجي، الرسمي على الأقل، من مهاجمة دولا خليجية، وهو "الميثاق" الذي حافظت عليه دول الخليج حتى خلال أزمة سحب سفراء الخليج من الدوحة في آذار 2014، ما يؤكد أن استمرار الحملة الإعلامية السعودية الإماراتية هو جزء من قرار سياسي يسعى لبناء قواعد جديدة في العلاقة مع قطر.
سياسة المحاور في المنطقة العربية
شهدت المنطقة العربية تقسيمات ومحاور منذ إنشاء الدولة الوطنية ما بعد الاستعمار. تغيرت هذه المحاور من فترة إلى أخرى تبعا لتغيرات الوضع الإقليمي والدولي أحيانا، أو انطلاقا من التغييرات في بنية الحكم في هذه الدول العربية أو تلك. ومن المعروف أن المنطقة شهدت اصطفافا واستقطابا حادا بعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة عام 2003، ثم تصاعد الاستقطاب بشكل أكبر بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، بالتزامن مع تصعيد إسرائيلي وإقليمي ضد حركة حماس، التي دخلت لاعبا إقليميا في العام ذاته بعد فوزها بغالبية مقاعد المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية.
وبعيدا عن الاختلاف على التوصيفات الإعلامية للمحورين الرئيسين الذين "تشكلا" في هذه المرحلة بين "اعتدال" و"ممانعة"، فإن هناك اتفاقا بأن السياسة العربية في الفترة ما بين 2004 و2011 حكمت بخيارات هذين المحورين، حيث كان الموقف تجاه أغلب الملفات الإقليمية الساخنة منقسما بين الدول التي حسبت على هذا المحور أو ذاك.
ومع بداية اشتعال الثورات الشعبية العربية أو ما أطلق عليه وصف "الربيع العربي"، ظلت هذه المحاور متماسكة إلى حد كبير، ولكن الحال تغيرت مع انطلاق الثورة السورية، التي أدت إلى انقسام ما كان يعرف بمحور "الممانعة"، بعد أن انحازت إيران للنظام السوري سياسيا وعسكريا، بينما أيدت تركيا وقطر هذه الثورة، فيما ظلت حركة حماس التي كانت تحسب على هذا المحور على الحياد، قبل أن تخرج قيادتها من سوريا وتتهم من قبل إيران وحلفائها بخيانة "المقاومة والممانعة".
وعلى الرغم من التقاء المواقف، بشكل نسبي، بين تركيا وقطر من جهة وبين دول محور الاعتدال تجاه سوريا، ودعم الدوحة وأنقرة موقف السعودية في اليمن، إلا أن الاختلاف بين الطرفين كان سيد الموقف تجاه الوضع في مصر والعلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية وغيرها من الجماعات والأحزاب المحسوبة على التيار الإخواني.
وإضافة لذلك، فقد كان لافتا أن بعض الدول المنتمية لمحور "الاعتدال" لم تتخذ موقفا واضحا ضد محاولة الانقلاب على أردوغان في حزيران من العام الماضي، ما يعزز أن الاقتراب بين تركيا وقطر من جهة وبين هذه الدول كان خيار الضرورة، بعد الهزائم التي مني به حلفاء أنقرة والدوحة أمام الثورات المضادة، وبعد افتراق الدولتين عن إيران بسبب الموقف من سوريا.
إلى الخلف در؟!
إذا استمرت الأزمة التي ظهرت بعد الحملة الإعلامية السعودية الإماراتية المصرية ضد قطر، وتحولت إلى أزمة سياسية، وهو ما يبدو مرجحا حتى الآن، فهذا يعني أن قطر وإلى حد ما تركيا ستجدان نفسيهما في محور ضعيف، بعيدا عن الكتلتين الكبيرتين في المنطقة، وهو ما يجعلهما، وحلفاءهما غير الحكوميين، في موقف ضعف بمواجهة محور إيراني قوي وآخر سعودي مصري إماراتي، وهو ما يجعل التساؤل عن إمكانية تموضعهما في محور "ضرورة" مروة أخرى مع إيران وحلفائها تساؤلا مشروعا.
ومع أن الحكم على إمكانية حدوث هذا التمحور لا يزال مبكرا، إلا أن إيران والإعلام الموالي لها بدأ يلعب لعبة "ذكية" تسعى إلى استقطاب قطر، فقد بدأ الإعلام الإيراني في ليلة اختراق وكالة الأنباء القطرية بالاحتفاء بالحملة الإعلامية ضد الدوحة، قبل أن تنقسم التغطيات في الأيام التالية بين الدفاع على قطر والهجوم عليها، خصوصا بعد الاتصال اللافت بين أمير قطر والرئيس الإيراني حسن روحاني، وتأكيد الأخير على لغة تصالحية تدعو لضرورة التعاون بين البلدين.
بمقابل ذلك، لم تظهر السياسة القطرية مواقف واضحة تجاه إيران حتى الآن، كما لم تظهر مواقف حادة تجاه الدول التي تشن حملة إعلامية مكثفة ضدها، ولا تزال وسائل الإعلام القطرية تمارس الحذر تجاه انتقاد السعودية، حيث اضطرت الجزيرة للاعتذار للسعودية عن نشر كاريكاتير اعتبر مسيئا للملك سلمان، كما أعلنت الدوحة أنها سلمت مواطنا سعوديا للسلطات في الرياض كجزء من اتفاقية تسليم المتهمين بين البلدين، فيما نشرت وسائل إعلامية قطرية رسمية بعض التقارير التي تتعلق بالملف الحقوقي في الإمارات، وهو أمر غير معهود منذ سنوات، فيما يبدو انعطافة تجاه التصعيد الإعلامي بين البلدين، ولكنها لا تزال انعطافة حذرة وهادئة حتى الآن بالمقارنة بالحملة الإماراتية الموجهة ضد قطر.
في الجانب السياسي، وبعيدا عن الإعلام، تبدو معظم الأطراف في المنطقة مأزومة. فإيران من جهتها خسرت صورتها لدى غالبية الشعب العربي الذي أصبح ينظر إليها باعتبارها عدوا رئيسا للعرب "السنة"، كما خسرت جزءا هاما من موقعها في سوريا بعد تحول البلد إلى ساحة لتصارع القوى الكبرى، خصوصا روسيا والولايات المتحدة.
أما قطر وتركيا فهما يمران في أزمة أيضا، بسبب عدم قدرتهما على الانتصار في سوريا عبر حلفائهما على الأرض، وخسارة حلفائهما في مصر.
السعودية والإمارات يعانيان من أزمة استراتيجية أيضا، بسبب عدم قدرتهما على الحسم في اليمن، واختلاف أجندتهما في الجنوب اليمني، وعدم قدرة حفتر وحلفائه على الانتصار في ليبيا حتى الآن، كما أنهما وضعا كل البيض في سلة الرئيس الأمريكي ترامب، الذي يواجه هو الآخر أزمات سياسية في بلاده، وطعنا مستمرا في شرعيته وصلاحيته للرئاسة، ومواجهات قضائية يومية؛ بسبب مزاعم حول علاقته ورموز إدارته بروسيا.
في ظل الأزمات واللحظات الحرجة، تضطر الدول لاتخاذ مواقف صعبة وغير متوقعة، وهو ما حدث مثلا عند انعطاف أردوغان نحو التطبيع مع إسرائيل والتوجه إلى موسكو بعد أزمة استمرت لشهور بين البلدين. ولذلك، فقد تشهد المنطقة تحولات جذرية، لم تكن متوقعة قبل الأزمة الخليجية الأخيرة، وقد نعيش اصطفافات جديدة تعيد للأذهان صورة المنطقة العربية بعد العام 2004، ولكن هذه التحولات لن تكون سهلة وليست مؤكدة على أي حال، خصوصا في ظل صورة إيران كعدو في المخيال الشعبي العربي، وفي ظل وجود رئيس غير مستقر في واشنطن، وصاحب قرارات غير متوقعة أيضا.
الأسابيع القادمة ربما تجيب عن هذا التساؤل بإجراءات واقعية على الأرض، ربما تكون بتنفيس الأزمة الخليجية؛ من خلال عقد مساومات بين أطرافها، أو بتحولات كبيرة وجذرية في محاور المنطقة، أو بتطورات أخرى غير متوقعة في هذه المنطقة المبتلاة بعدم الاستقرار والقدرة على التوقعات!