تتقدّم مقدّمة كتاب "العدل: الإسلاميون والحكم" للمفكّر والإصلاحي المغربي عبد السلام ياسين ـ والمقالُ يشتغل ضمنَها وفي إطارها ـ باعتبارها نصا يستنطقُ واقعَ الأمة ويستشرفُ مصيرَها، ويُحدّد من داخل جراحها الأفق الذي ينبغي أن يُنظرَ منه إلى العدل لا بوصفه مطلبا سياسيا، وبرنامجَ حكمٍ فحسب، بل بكونه رسالةً إيمانية.
شكّلت لحظة توقيع اتفاق التطبيع بين الدّولة المغربية والكيان الصهيوني (10 ديسمبر 2022م) محطة مهمة في مسار العلاقة بين "إسلاميي الإصلاح من الدّاخل" والسلطة؛ فكلّ المراقبين يجمعون على أنّ قرار التطبيع كان اختيارا استراتيجيا للدولة، صُنع في مستويات عليا لا تمتلك الحكومة تجاهها سلطة تقريرية. وهذا يوضّح أنّ الحكومة في المغرب ليست جزءا من صناعة هذا النّوع من الاختيارات. ومع ذلك، لم يكن جوهر الإشكال في طبيعة القرار ولا في خلفياته، بل في الكيفية التي اختارت بها الدولة تمريره سياسيا: إسنادُ التوقيع إلى رئيس حكومة ينتمي إلى التيار الإسلامي، هو سعد الدين العثماني، الذي راكم تاريخا طويلا من الخطاب الرافض للتطبيع.
قبل أن يدوّن ميكيافيلي تأمّلاته المشهورة بقرون، كان سلوك القوى الطاغية يؤكّد أنّ الوسيلة، في نظرها، خادمة مطلقة للغرض، وأنّ أي التزام أخلاقي ليس سوى عبء على تحقيق الهيمنة. هذه الملاحظة تفتح سؤالًا آخر: هل يمكن للخير أن ينتصر دون أن يتخلّى عن قيمه؟ وإن كان متمسّكا بأخلاقه، فكيف يواجه خصما لا يعترف بأي ضابط؟
يبدو من المُتعذّر الحديث عن موقع الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية دون الوقوف على ذلك القدر الكبير، والتّدريجي، من التخلّي الذي مارسته هذه الأنظمة، تَخَلٍّ لا يمكن وصفه بمجرد الإهمال أو اللامبالاة، بل يثير سؤالا ملحًّا، تدعّمه الوقائع، حول ما إذا كان ينبغي تسميته ـ في حقّ بعضها ـ خيانة صريحة، لا سيما حين يتضح أنّ هذا التخلّي لم يكن عارضا أو مرتبطًا بظرف سياسي معيّن، بل هو توجّه ثابت يشترك فيه أولئك البعض.
من منظور بحثي صرف، يبدو أننا أمام بنية سياسية تتكرر فيها العناصر نفسها: هشاشة مدنية، صعود عسكري، شرعية أيديولوجية عابرة، ثم استبداد طويل، وانهيار مؤسساتي، وأزمات اجتماعية واقتصادية ممتدة.