تعيش تونس مهد ثورات الشعوب على فوهة بركان ضخم من الحنق الاجتماعي الذي لا ينفك يغلي منذ عقود هي في الحقيقة عمر الدولة الاستبدادية في أرض "أبي القاسم الشابي". الغضب الاجتماعي الذي تعبر عنه حالة العصيان المدني المدشنة حديثا في ولاية "تطاوين" الحدودية مع الغرب الليبي هي ردة فعل متأخرة على سياسة التهميش والإقصاء والاحتقار التي قادتها دولة الوكالة الاستعمارية خلال حكم الوكيل الأول "بورقيبة" والوكيل الثاني "بن علي".
لا تختلف تونس عن بنية الدولة العربية الاستبدادية الناسلة عن خارطة "سايكس بيكو" في بنيتها وفي توزيع الثروة فيها حيث تطغى المركزية الحادة وحيث يغطي الرفاه مناطق بعينها هي المركز وهي مصدر السلطة السياسية والاقتصادية في حين تسبح بقية المناطق في الفقر والعوز والحاجة لأبسط مرافق الحياة. جنوب تونس خاصة هو واحد من مناطق الإقصاء الواسعة في البلاد وهو إقصاء يطرح خطورة نشأة " المسألة الجنوبية" في دولة تعرف منذ نشأتها جهوية حادة وخطيرة بين شمال وساحل مترف وجنوب يغوص في الفقر والتهميش.
فخلال مرحلة الاستقلال الموهوم الذي أسس للدولة القمعية البوليسية كان الجنوب التونسي ولا يزال يمثل منطقة عسكرية أو شبه عسكرية لا تشكل في عرف النظام القمعي غير أرض عازلة ومصدرا من مصادر الفوضى والتمرد حسب الرواية الرسمية.
فكل الثروات الباطنية من نفط وغاز وملح وفسفاط... وغيرها من الثروات التي تنتجها أرض الجنوب إنما تذهب كل عوائدها إلى عصابات الشمال والساحل من المتحكمين في رقاب الدولة والاقتصاد والمجتمع من العائلات التي أورثها الاستعمار الأرض والحجر والشجر. كان الجنوب بشرقه وغربه كما كان وسط البلاد العميق وشمالها الغربي خزانات للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي خلال مرحلة الاستعمار المباشر وكانت التركيبة القبلية وطبيعة الجغرافيا المفتوحة والمعقدة عوامل مساعدة على صقل شراسة هذه المقاومة التي أنهكت الاحتلال وفرضت عليه الخروج.
بسرعة كبيرة بعد الاستقلال الموهوم وخلال مرحلة تصفية الخصوم السياسيين قام الوكيل الأول بورقيبة 1956 1987 بتصفية كل المنافسين الحقيقيين لتربعه على عرش تونس وكانت سلطات الاحتلال الفرنسي تسهر على أن يكون العميل المخلص رئيس المحمية الجديدة لعقود من الزمن قبل أن تظفر بالعميل الجديد "بن علي" الذي انقلب على العجوز المريض ليلة 7 نوفمبر 1987. كان الشهيد "صالح بن يوسف" و"فرحات حشاد" وغيرهم من خيرة المناضلين المدنيين ضد الوكالة الجديدة للاحتلال الفرنسي على لائحة التصفيات التي طالتهم وطالت قيادات أخرى في صفوف الحركة الوطنية التونسية بأمر من "المجاهد الأكبر" بورقيبة.
بالأمس القريب نَعَت الرئيس الجديد لتونس بعد الثورة "الباجي قايد السبسي" - وقد كان رئيسا للبرلمان ووزيرا للداخلية ذات يوم - سكانَ الجنوب بـ"خشخاش الإرهاب" أي "حطب الإرهاب" وهي استعادة لا واعية لخطاب بورقيبة ذات يوم عندما نعت الشعب التونسي بـ"الغبار البشري" وهي تعني "الذين لا قيمة لهم".
لا يُخفي هذا الخطاب البائس غير نرجسية حاقدة وغير مرض الزعامة الذي يتأصل عادة في النفوس المريضة فيخلق أوراما فرعونية قديمة لا ترى غير ذاتها المنتفخة وأناها المتورمة. لفظ "الاحتقار" أو "الحقرة" قد لا يعني الكثير لأهلنا في المشرق لكنه عند المغاربة يعني الكثير الكثير لأنه يختزل عقودا من إهانة الإنسان و قمع ذاته و سلب كرامته ودوْس الروح التي كرمه الله بها.
لقد اختار الاستعمار والسفارات المرتبطة به أشرس النخب عداء لأهلها وأكثرها قابلية للذوبان في الآخر المستعمِر القوي بدبابته وأساطيله وعصاه الضارية... لكي يمكنهم من دواليب الدولة ويورثهم ثرواتها قبل أن يغادر فيترك البلاد لمرتزقة أشد شراسة وتوحشا في الاستئصال كرامة الإنسان وهويته وربطه ربطا وثيقا بما وراء البحار في لغته وثقافته ورزقه اليومي.
رغم كل ذلك بقي الجنوب التونسي - ووسطه وشماله الغربي بصورة عامة - عصيا على التطويع خلال عقود من الاستعماري الفرنسي المباشر كما صمد في وجه أعتى حملات التغريب التي قادها الطاغية بورقيبة ومن بعده بن علي.
لقد فجّر العمق العميق لتونس في سيدي بوزيد والقصرين يوم السابع عشر كانون الأول ديسمبر 2010 الشرارة الأولى للثورة التونسية الخالدة ونجح في إسقاط واحد من أكثر أنظمة الوكالة الاستعمارية بؤسا وها هو جنوب تونس يؤكد أنه قادر على أن يكون الرافعة القادمة للموجة الثورية الجديدة التي ستحقق مطلب تأميم الثروات ضد "عصابة السراق" كما يسميها التونسيون.
إن معركة استعادة الثروات الطبيعية لمصلحة الفقراء من أبناء الشعب هي فاتحة المعركة القادمة التي سيخوضها أحرار تونس ضد عصابة اللصوص التي تمسك بمفاصل الدولة العميقة من جديد لأن الثروات الطبيعية هي بنص الدستور "ملك للشعب التونسي" وهي كذلك دعامة أساسية من دعائم التنمية وخلق فرص العمل ومحاربة البطالة وكل الآفات الاجتماعية. أما معركة التحرير الثانية فتتمثل في استعادة الثروة البشرية بما هي الحارس الأمين للثروات الطبيعية وبما هي أساس النهضة والتحرر من زيف الاستبداد ثقافة وقيما وسلوكا.
إن ما مارسته الدولة القمعية البوليسية في حق تونس العميقة وفي حق أجيال من أبناء الفقراء والمهمشين والمسحوقين منذ وصل بورقيبة إلى السلطة إنما ترتقي إلى أعلى درجات الإرهاب الاجتماعي والحضاري بما هو الحاضنة الأساسية لكل أشكال التطرف والإرهاب الأخرى.
إن تحرر الإنسان يكمن أول ما يكمن في سيادته على أرضه وعلى ثرواته وعلى قراره ولا سيادة له دون ذلك وليست ثورة الأحرار في شتاء 2010 إلا سعيا وراء هذه الحرية التي تؤرق قوى الاستكبار العالمي وشبكة الوكلاء المرتبطة بهم على طول الوطن المقاوِم.