قضايا وآراء

الحرية والشريعة.. العناوين الكارثية

1300x600
في أحد أكثر التعريفات تفسيرا للقيم تعرف على أنها "الخصائص أوالصفات المرغوب فيها من المجتمع  والتي تحددها الثقافة القائمة للحفاظ على النظم الاجتماعية والاستقرار بالمجتمع"، وهناك ما يسمى بنسق القيم ويمكن تعريفه على أنه نموذج مُنَظَّم للقيم في مجتمع أو جماعة ما، وتتميز القيم الفردية فيه بالارتباط المتبادل الذي يجعلها تدعم بعضها البعض وتكون كُلَّا متكاملا.

فهناك مستويين؛ أولهما القيم مثل العدل والحق والحرية وغيرها؛ وكل تلك القيم تدخل في نمط تفكير ما ليتم صياغتها في كل متكامل لتنتج نسقا قيميا ناتج عن أفكار كلية تضع حدودا وتفسيرات وضوابط لها. فكل قيمة يتم تفسيرها وبناؤها داخل نسق القيم عن طريق أفكار كلية مسبقة سواءا كانت أيديولوجية أو دينية.

إذا فالعنوان غير موفق تماما بوضع الحرية؛ وهي إحدى القيم؛ في مقارنة مع الشريعة وهي إحدى الأنماط الكلية وإحدى محددات التفكير، بحيث يتحتم اختيار أحدهما فهذا شيء غريب وغير منطقي، فالمقارنة ضمنية بين المصطلحين لوجود الإجبار على حتمية اختيار أحدهما؛ ولما كانت المقارنة تعني لغويّا المقايسة بين ظاهرتين أو أكثر بهدف تقرير أوجه الشبه والاختلاف فيما بينها. فالسؤال يضع الاثنين في مرتبة واحدة؛ ومع عدم قدرة القيمة على التحول لتكون إطارا فكريا جامعا، فلا يمكن أن تجعل من الحرية مرجعا فكريا وضابطا لكل شيء، فتكون النتيجة بصرف النظر عن دوافع طارحي السؤال هي السقوط بمفهوم الشريعة إلى مستوى القيم واعتبار كونها إطار مرجعي حاكم غير موجود. 

خطورة تلك المشكلة أنها تشارك في صناعة وعي عام جديد وخطير؛ فلم تكن هناك مشكلة في أن يكون السؤال بصيغة هل الحرية تتوافق مع الشريعة الإسلامية؟ أو أي طريقة أخرى للسؤال تحافظ على مكانة الشريعة كضابطة ومهيمنة على القيم مثلها مثل أي إطار فكري آخر سواءا كان دينيا أم أيديولوجيا، وينبغي أن نتذكر أننا لم نسمع من قبل سؤالا كهذا يحاول صناعة صدام بين القيم – أي قيم – وبين أي أيديولوجي أخرى. ولكن كان دائما محور السؤال هل تتوافق القيمة مع الأيدولوجي أم لا.

إن هذه المشكلة الخطيرة هي – كما أراها – ليست نتيجة تآمر وهي الإجابة الأسهل والمباشرة، ولكنها نتيجة لعدة عوامل وهي، أولا أن المفهوم الغربي للحرية أمَّم العقل الجمعي سواء للمثقفين والنخب أو حتى الرجل العادي؛ وأصبح ذكر كلمة الحرية يعكس صورة ما. والسبب الثاني هو حدوث حالة عامة في العقل الجمعي أيضا أن الشريعة متناقضة مع الحرية بصورتها التي تم تثبيتها، وصُنِعَت بذلك صورة معاكسة مباشرة وهي أن الشريعة عدوة الحرية.

والسبب الثالث هو التصور الخاطئ لموضع الشريعة بحيث يعتقد البعض أن القيم المثالية المجردة من تصور شامل يمكنها أن تنجح ؛ وبمعنى أكثر وضوحا أن قيمة الحرية يمكن أن تعيش في مجتمع بدون نسق ما للقيم تحت إطار فكري جامع بل ويمكنها إنتاج هذا النمط؛ فأحيانا نسمع أن الحرية إذا أُعْطيت للمجتمع فإن ذلك هو الطريق المؤدي للشريعة وكأني أرى العربة الآن أمام الحصان.

هذه الأسباب الثلاث هي الدافعة لكل الأسئلة الخاطئة التي تملأ الفضاء وتحيط بنا من كل حدب وصوب، وعلاج هذه الأسباب هي الطريق لعدم إعادة طرح الأسئلة الخاطئة مرة أخرى ، وعلاج الأسباب الثلاث مرتبط بالأساس بتغيير التصور الراسخ عن الحرية وأنها بالأساس متعارضة مع الشريعة.

إن أي قيمة تحتاج لمحددات، فالحرية على سبيل المثال لها ضوابط في أي ثقافة أو أيديولوجية كانت، والضوابط الموضوعة تنتج من العقل البشري وهي مُحَاصرة بحدود الزمان والمكان وقدرات الحواس والعقل؛ و في غياب أي معايير متجاوزة ضابطة؛ تتحول إلى تعبير عن قوة طرف ما؛ وطبقا للموضوع يصبح التفسير أو الإطار الحاكم للقيمة هو فصل بين نقيضين؛ الحرية والعبودية أو غيرهما مما تشاء.

بينما الشريعة متجاوزة لحدود الزمان و المكان وصادرة من الله وهي تفصل أيضا بين ما هو محيط بكل شيء من ناحية "الله" وبين كافة البشر بداخل الإطار؛ لذا تُنْتَج عبودية واحدة لله ولله فقط، ولا يمكن للشريعة إنتاج حالات عبودية للبشر إذا كانت موجودة بشكل مثالي. لذا فإن العبودية لله وحده هي قمة الحرية في العالم، والشريعة هي الضابط الأكبر لغياب العبودية عن العالم؛ وغيابها يعني ظهور محددات أخري للقيم تنتج فورا نقيضين كما سبق ذكره وبالتالي استعباد من بشر لبشر.

لذا فكل ما يحاول طرحه وفرضه المجتمع الغربي من تفسيرات لقيم الحرية هي متعارضة هيكليا وليس ظاهريا مع تفسيرات قيمة الحرية في المجتمع الإسلامي.

لذلك فإن الشريعة الإسلامية هي وعاء الحرية ولا معنى داخل نموذج المجتمع الإسلامي للحرية بدون شريعة؛ وإذا تحدث أحد عن حرية بدون شريعة فهو يتحدث عن شكل آخر للحرية يتناقض هيكليا مع مفهوم الحرية في الإسلام التي لا تتحقق إلا بكامل العبودية لله والتي بدورها لن تتحقق إلا بتطبيق شريعته.

وبالتأكيد هناك موضوعات كثيرة متعلقة ومنها كيف نطبق الشريعة لكن هذا مجال آخر، فالهدف الأساسي الآن هو تأكيد الخلل في السؤال ومحاولة تأكيد أن الحرية الحقيقية لا يمكن إنتاجها إلا في وجود التشريع الإسلامي ويتناسب مدى تحرر المجتمعات والأفراد طرديا مع مدى تطبيق الشريعة الإسلامية التي تحرر البشر من عبودية بعضهم البعض وكما قال ربعي بن عامر في مقولته الخالدة "لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، لقد أدرك الصحابي الجليل كل المعاني الكبرى في مفهوم الحرية في الإسلام وارتباط الحرية بالعبودية لله الواحد دون كل هذه الأسئلة وربما أصيب بالذهول والصدمة إذا استمع الآن إلى هذا السؤال الكارثي.