قضايا وآراء

تساؤلات حول الإسلام والنماذج العلمانية

1300x600
يذهب بعض المؤرخين إلى اعتبار الحدث الاستعماري قطيعةً بنيوية بين زمنين ثقافيين: زمن المجتمعات التقليدية المنغلقة على بنى تشريعية وقيمية ذات جذر ديني، وزمن المجتمعات الحديثة المنفتح على التشريعات الوضعية المنافسة للمتون الفقهية المهيمنة من قبل. ولا شكّ في أنّ الثورة التونسية -وما تلاها من ثورات غيّرت الخارطة الجغرا-سياسية للعديد من البلدان- قد مثلت قطيعة بنيوية ثانية بين دولة الاستبداد -بما هي واقع- ودولة المواطنة -بما هي أفق مفهومي مؤسساتي ممكن- وذلك بصرف النظر عن المسارات المتعرجة للثورة التونسية وانتكاساتها "المؤقتة" بقيادة النواة الصلبة للمنظومة الدستورية التجمعية ببنيتها الجهوية وشبكاتها الزبونية ومنطقها الحداثوي المأزوم داخليا والتابع خارجيا.

لو أردنا اختزال الإشكالات التي أثارتها الثورة التونسية بعد دخول "الإسلاميين" إلى الحقل السياسي القانوني وقبول مختلف الأطراف العلمانية (بقناعات مبدئية متفاوتة) بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، لو أردنا اختزال تلك الإشكالات إلى إشكال رئيس تُشتق منه باقي القضايا لقلنا: كيف يمكن بناء دولة المواطنة دون استثناء الإسلاميين ومرجعيتهم الأصولية الفقهية التراثية التي يرى الكثيرون أنها تهدد "النمط المجتمعي التونسي"، أي كيف يمكن للإسلاميين أن يكونوا شركاء في بناء "الجمهورية الثانية" من غير أن نحتكم إلى المدونة الفقهية التقليدية التي قد تتعارض مع فلسفة حقوق الإنسان وتعجز بنيويا ووظيفيا عن إدارة الدولةـالأمّة بالمعنى الحديث للكلمة؟ 

يلاحظ المتتبع للشأن التونسي غلبة الجمل التوكيدية والأسلوب الخبري على أغلب تدخلات الفاعلين الجماعيين. كما يلاحظ أيضا غلبة "أحادية الصوت" وضمور النزعة الحوارية الحقيقية التي تؤمن بأن الحقيقة الجماعية تنتج عن الحوار ولا تتقدم عليه. فالكل يملك الحقيقة، والكل يتعاملون بمنطق "الداعية" لا بمنطق المحاور الذي يضع قناعاته على طاولة النقاش. ولا شك في أن ها الوعي لا يمكن أن ينتج أكثر من "كنتونات ثقافية" متباعدة لا يجمع بينها إلا التجاور المكاني ولا يمكنها أن تؤسس "معًا" لمشروع مجتمعي مشترك.

من أجل ذلك وغيره، سنحاول في هذا المقال أن نبتعد ما استطعنا عن الأسلوب التقريري المطمئن في "سباته الدوغمائي" سواء أكان سباتا دوغمائيا دينيا أم علمانيا. وسنعمد إلى طرح بعض الأسئلة آملين أن تكون هي نفسها عنصرا من عناصر الإجابة "الجماعية" التي يعتقد صاحب المقال أنها لن تصدر من المواقع التقليدية للتفكير على الضفتين الإسلامية والعلمانية:

1- هل من الحتمي أن تستمر الصراعات بين الإسلاميين والعلمانيين تحت سقف "اللائكية الفرنسية" ونموذجها العلماني المتطرف والمأزوم حتى في مجاله التداولي الأصلي؟ وإذا  كان كلمة العلمانية هي فعلا، كما قال المرحوم عبد الوهاب المسيري "ذات سمعة سيئة" في المجال العربي الإسلامي، فهل إنّ مرد ذلك هو قيم العلمانية وفلسفتها السياسية أم هو مردود إلى الانحرافات السلطوية عن جوهر العلمانية في بعض المجتمعات، والاعتماد على النموذج اللائكي الفرنسي في مجتمعات أخرى (ذلك النموذج الذي يكفي لوضعه موضع المساءلة عدد الإرهابيين المنتمين إلى مجتمعات فرنكفونية مقارنة بعع المنتمين إلى  ثقافات أخرى، خاصة الثقافة الأنغلوساكسونية).

2- هل العلمانية التي لا تنحصر في  النموذج اللائكي الفرنسي الذي هو أقرب إلى الديانة العلمانية منه إلى الفلسفة السياسية هي بالضرورة "ديانة جديدة" تنافس الأديان التقليدية –ومنها الإسلام- حتى لا يمكن الجمع بينها وبينه؟ هل يوجد في العلمانية ما يمنع المؤمن من أن يعيش تجربته الروحية بغير اغتراب ولا احتراب؟ ولا شك في أنّ الإجابة عن هذا السؤال لن تستقيم إلا بالإجابة عن أسئلة تسبقه منطقيا ومنها: هل الإسلام فعلا هو  "استثناء" لا يقبل العلمنة ولا الديمقراطية على عكس الأديان الأخرى ومنها الأديان الكتابية؟ هل الإسلام هو الشريعة، وهل الشريعة بالمعنى الحرفي (أي بالفهم التراثي غير المقاصدي للكلمة) جزء ماهوي في الدين؟ أي هل تعطيل أو إسقاط حكم "الرق" مثلا أخرج الناس من إسلامهم؟ وهل اجتهاد "أحادية الزوجة" بدءا من محمد عبده (قبل علماء الزيتونة) يطعن في إسلام من قام به؟- هل هناك فهم واحد صحيح ونهائي للإسلام ينبغي أن نلتزم به جميعا؟ ما هو هذا الفهم وكيف يمكنه أن يفرض معياريته بعيدا عن سلطة الدولة وأجهزتها القمعية؟ وعلى افتراض وجوده -جدلا- فهل علينا الاعتراف بشرعيته المطلقة أم النظر اليه باعتباره اجتهادا بشريا يمكننا استئنافه من منطلق فقه المقاصد و النظر إلى الواقع في بناء النصوص الشرعية؟

3- هل قبول حركة النهضة -بل الإخوان في مصر- بالعمل السياسي "القانوني" والإقرار بحق العلمانيين في إدارة الفضاء العام (أي تجاوز عقلية البديل إلى عقلية الشريك) هو شيء آخر غير "علمانية فعلية" غير واعيه بطبيعتها أو تعجز لأسباب معرفية وإيمانية عن الإقرار بتلك الطبيعة (في مقابل "العلمانية الصريحة" التي تعقل ذاتها بما هي كذلك)؟ وبالتالي أليس "القبول المتبادل" بين الإسلاميين و العلمانيين بتقاسم المجال السياسي  في المنظور الاستراتيجي سوى تعبير عن الحقيقة التالية: العلمنة "الجزئية" للخطاب الديني، والأسلمة "الجزئية" للخطاب المُعلمن والبحث عن مشترك يمنع إدارة الخلاف بوسائل غير سلمية؟ لا شك في أن التعايش "القانوني" بين الإسلاميين والعلمانيين هو تعايش براغماتي محكوم بتوازنات هشة وغير مبدئية في الأغلب، وهو لذلك مفتوح على مسارات متناقضة تتراوح بين الردة إلى منطق "الصراع الوجودي" وما يحتمله من احتراب أهلي وإفشال للمسار الديمقراطي، وبين التأسيس "معًا" للجمهورية الثانية التي ليست بالضرورة استنساخا لأي نموذج غربي سابق.

4- كيف يمكن إدارة المجتمع الحديث بتعقيداته وتعدّدية مرجعياته الفكرية وأنماطه السلوكية من دون الاحتكام إلى المؤسسات "الوضعية" التي تقوم على فلسفة حقوق الإنسان ومبدأ المواطنة؟ هل يستطيع "الفقه" أن يجمع الناس بعيدا عن المنظور المذهبي الضيق الذي لن يتّسع حتى لأصحاب المذاهب الأخرى من الإسلاميين فكيف بغيرهم (أي هل سنعود إلى أحكام أهل الذمة وغيرها من الأحكام الشرعية)؟ كيف يمكن –مثلا- للمرجعية السلفية-الوهابية أو للمرجعية المالكية-الأشعرية أن تغادر موقعها التراثي المتحكّم في المجتمعات التقليدية إلى موقع "حداثي" يتجاوز أسيجة "الجماعة الإيمانية المغلقة" التي لن تكون مطابقة للمجتمع الكُلّي "الحديث" مهما اتّسعت قاعدتها الشعبية أو حازت الأغلبية العددية؟

5- إذا افترضنا -جدلا- عدم احتياجنا إلى العلمانية (تلك الكلمة "سيئة السمعة" نتيجة الأفهام "المؤدلجة" لها ونتيجة توظيفاتها الاستبدادية في الصراعات السياسية)، فما هو البديل "الفلسفي" والمؤسّسي القادر على حماية الحقوق الأساسية للمواطن سواء أكان متدينا أم لم يكن؟ هل نعود إلى "المرجعية" الفقهية وبأي معنى؟ هل تستطيع الأنظار الفقهية التي أنتجها مجتمع تقليدي-ما قبل حداثي- متجانس ثقافيا وسلوكيا وموحّد مرجعيا، أن تقوم بهذا الدور "المعياري" والمؤسس على التوافق الطوعي من أغلب فئات المجتمع؟ وبأي معني يستطيع حمل الناس على منطقه إذا ما رفضوا الأخذ به؟ مثلا: من سيضمن  للمواطنين "حرية التفكير " والتعبير والسلوك -خارج ما يريده "الفقه المذهبي" الذي يُسمّى مجازا "شريعة إسلامية" (والحال أن ما يُسمّى "شريعة" يعكس "فلسفة" أو "رؤية وجودية" أو منظورا جمعيا لا يمكن فصله عن سياقاته وعن وظائفه المتغيّرة، كما أنه لا يمكن حصره في "الأفهام" التراثية له كما تريد أن تقنعنا خطابات "الإسلام السياسي".

ختاما، نستطيع أن نقول بأنّ على العقلين الإسلامي والعلماني أن يجترحا الجواب عن الإشكالات السابقة كلها بالتفكير "معا"، وإلا كانت الأجوبة مجرد لبنات أخرى في "الأزمة" لا مخرج منها. ولا يمكن للأجوبة "معا" أن تكون ذات فاعلية اجتماعية إلا إذا ما اعترف العلماني للإسلامي بحق التفكير في الإشكاليات المواطنية دون أن يتماهى معه فكريا، واعترف الإسلامي للعلماني بحق تدبر الشأن الديني دون أن يكون "أخاه" حزبيا أو دينيا. إنها وضعية ممكنة في المستوى الاستراتيجي رغم أنها تبدو صعبة المنال في المدى المنظور . ونحسب أنّ تعريف الإسلام السياسي (في حركة النهضة) لنفسه باعتباره "إسلاما ديمقراطيا" هو خطوة تقدمية نحو "الحركة المحافظة" التي لن يكون الإسلام إلا رافدا من روافدها المرجعية، كما لن يكون الإسلاميون إلا جزءا من قاعدتها الانتخابية. ولكنّ هذه الخطوة تحتاج إلى خطوة مقابلة من جهة القوى العلمانية التي عليها أن تفكّر بجدية في آليات نحت ثقافة مواطنية وخيارات توافقية "مع " الإسلاميين لا على أجسادهم وأرواحهم من جهة أولى، ودون الخضوع-من جهة ثانية- للحلول الصدامية التي تقترحها اللائكية الفرنسية لإدارة العلاقة بين الديني والسياسي، تلك الحلول المأزومة التي لا يمكن فصلها عن سياقات نشأة العلمانية الفرنسية المتسمة بالعداء للإقطاع والكنيسة على حد سواء.