لم يمثل التقرير الذي قدمته " منظمة العفو الدولية " عن سجن " صيدنايا " صدمة للجماهير العربية التي تتابع على المباشر مجازر النظام الطائفي في بلاد الشام. فرغم سعي الجهة الصادر عنها إلى تكوين موجة شبيهة بالصدمة في التعبير عن مضمون التقرير إلا أن أصغر أطفال سوريا قادر على أن يرويَ من الأهوال والجرائم والمذابح أضعاف أضعاف ما ورد في التقرير الأممي.
لم يترك النظام ـ والعصابات المرتبطة به ـ وسيلة إجرامية لتركيع الثورة السورية إلا وجربها بدءا بالقنابل والبراميل والتجويع حتى الموت إلى التعذيب والتنكيل والاغتصاب والحرق والتمثيل بالجثث والقصف بالغازات السامة والقنابل الانشطارية والعنقودية. بناء عليه فإن ما كشف عنه التقرير الأخير لا يمثل رغم كل بشاعته إلا قطرة في بحر الجرائم الأسدية التي ارتكبتها العائلة القابضة على مصير السوريين وفرق الموت التابعة لها.
لكن من جهة أخرى يشكل التقرير بطابعه الرسمي ورمزية الجهة الصادر عنها حجة إضافية وتأكيدا قانونيا على بشاعة الجرائم التي حولت سجون الأسد إلى مسالخ حقيقية ترتكب فيها مجازر بحجم ما يعرف بالجرائم ضد الإنسانية والتصفية العرقية والإبادة الجماعية. فعدد الثلاثة عشر ألف إعدام في سجن صيدنايا ترتقي إلى مرتبة الإبادة وإلى قمة التوحش البشري في التعامل مع الإنسان.
الدرس إذن ليس في جرائم النظام ولا في توحش الأنظمة الاستبدادية العربية جميعها لأن القتل والتعذيب جزء أساسي من كيانها الوجودي وشرط مركزي منه تستمد شروط بقائها. الدرس الأساسي إنما يتشكل عبر واجهتين أما الأولى فتخص المجتمع الدولي أو ما يسمى بالنظام الدولي في حين تخص الواجهة الثانية المجموعة العربية سواء منها الإطار الرسمي أو الجماهيري أو النخبوي.
لسائل أن يسأل أليس ما يقوم النظام السوري وفرق الموت المساندة له سواء منها ما يسمى "حزب الله اللبناني" أو الفرق والمليشيات الإيرانية على اختلاف تسمياتها إرهابا حقيقيا إن لم نقل أنه قمة من قمم الإرهاب ؟ لماذا يرفض العالم "المتحضر" الذي لفق كل أنواع الأكاذيب للنظام العراقي ـ قبل غزو البلاد وتدميرها ـ تسمية الأسماء بأسمائها في سوريا ؟ لماذا وقف العالم يتفرج بل ويتلذذ مذابح السوريين وأشلاء أطفالهم تحت ركام القصف الروسي والإيراني والأمريكي؟ من يستطيع اليوم أن يصدق أكذوبة حقوق الإنسان وكل الشعارات الجوفاء التي ترددها أروقة الأمم المتحدة والجمعيات الإستخباراتية المتدثرة بالعمل الخيري وبالدفاع عن الحريات والأقليات وبقية المشتقات ؟ ألم يفقد المجتمع الدولي كل الأعمدة التي كان يستند عليها في أكاذيبه السابقة وصار اليوم عاريا لا تغطيه المساحيق التي ذهبت بها رياح الثورة السورية العظيمة ؟
لم يحدث في التاريخ البشري الحديث إرهاب شبيه بالإرهاب الذي مارسته آلة الموت الطائفية في سوريا بل إن الجرائم البشعة كانت تنقل كل يوم ولا تزال على كل شاشات الأخبار وتتناقلها صورًا حية جميعُ مواقع التواصل الاجتماعي بشكل فوري. لكن في المقابل حافظ العالم المتحضر على صمته المشارك في الجريمة وكأنه ينتظر أن تغير جرائم الأسد المشهد السياسي والديموغرافي في سوريا لصالح الطوائف التي يدعمها النظام الاستعماري العالمي الجديد.
لماذا هرولت أكثر من ثلاثين دولة وثلاثين جيشا لتدمير العراق وغزوه بناء على أكاذيب ثبت زيفها وزيف مدّعيها ووقفت نفس الدول موقف المتفرج على جرائم تفوق في بشاعتها كل جرائم الحرب العالمية الثانية؟ الجواب بسيط جدا لأن جرائم الأسد جرائم مسموح بها. إرهاب الأسد إرهاب مباح دوليا بل هو إرهاب يحظى بدعم الدول العظمي التي لا تتردد رغم دعمه في السر عن التنديد به والتشهير بما يفعله في العلن حفاظا على بعض ماء الوجه أمام الكثير من السذج والأغبياء.
النفاق العالمي وبعبع الإرهاب الذي تتجار به الدول الصانعة للإرهاب نفسه والممولة له يمكن أن يكون مفهوما ومبرَّرا في إطار سلسلة الحروب الاستعمارية التي تستهدف المنطقة العربية. لكن الصمت العربي الرسمي عن مذابح الأسد ونظامه صار فاضحا. جامعة الدول العربية ذلك الكيان المترهل والجسم الموبوء الذي لم يساهم في غير الإشراف على كل المشاريع التدميرية للأمة لم تحرك ساكنا خاصة بعد أن سقطت في حضن الانقلابات وعادت إلى مصر العسكر كمؤسسة هي في الحقيقة جزء من نظام الوكالة الاستعماري عربيا.
النخب العربية أو " نخب العار العربية " كما صار يسميها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي فاقت النخب الغربية في التآمر على الشعب السوري وعلى الثورة السورية. النخب القومجية مثلا استبسلت في الدفاع عن كل جرائم الأسد وتنكرت لفكرة العروبة بعد أن صار القوميون العرب جزءا لا يتجزأ عن المشروع القومي الفارسي في بلاد العرب. أما النخب المرتبطة بالاستبداد وبالسلطة الاستبدادية عربيا من اليساريين والإسلاميين واللبراليين فقد تنكروا للمبادئ الإنسانية التي قامت عليها كل حركات التحرر في التاريخ وعلى رأسها فكرة الحرية والتحرر واحترم حرمة الإنسان الجسدية. لقد رأت النخب العربية في عصا الاستبداد وخناجره فرصة نادرة للتخلص من خصومهم وهم لا يعلمون أن خنجر الاستبداد لن يستثني أحدا وأن الدور لاحقهم لا محالة يوما ما.
لقد كان الشعب السوري عظيم مدركا منذ البداية بأنه سيدفع وحده ثمن حريته الباهظة وكان شعار " ما لنا غيرك يا الله " أبرز الشعارات التي ترجمت هذا الحدس المبكر بنفاق العالم ومكره غربيا وعربيا.