قضايا وآراء

أوهام الكهف

1300x600
يشير فرنسيس بيكون وهو فيلسوف إنجليزي شهير إلي عدة أوهام تحاصر العقل وبالتالي تنتج في النهاية صورة مشوشة للحقيقة، فالحقيقة هي الهدف المنشود لكل الباحثين عنها، وهذه الأوهام كما ذكرها هي أوهام الكهف الناتجة عن الطبيعة الشخصية لكل فرد وأوهام القبيلة التي تنتج عن تطور الفكر المجتمعي وأوهام السوق الناتجة عن احتكاك وتعامل مكونات المجتمع وأخيرا أوهام المسرح الناتجة عن رؤية المفكرين والفلاسفة للكون وتفسيرهم له.

وأول هذه الأوهام هي أوهام الكهف الناتجة عن صفات وملكات تختلف من فرد لآخر؛ وبالتالي المفاهيم والمعايير التي نقيس بها الأمور لا يمكن أن تتوافق وفي بعض الأحيان يكون التباين الهائل بين رؤية طرفين أو أكثر لنفس الأمر مثيرا لاستغراب الأطراف المتباينة، فكل طرف من أطراف الاختلاف يبني رؤيته علي مقدمات خاصة تختلف من شخص لآخر، وهذه الأوهام تزيد من صعوبة الوصول إلي الحقيقة أو حتي الاتفاق علي شيء وكأن كل منا أسير لعقله وكهفه ومجتمعه. فنحن نعيش في كهوفنا الخاصة.

ويدلل بيكون على صعوبة تجاوز الأفكار المسبقة لدى الكثيرين أو ربما الجميع؛ بإسراع الناس إلي ملاحظة الأمثلة والحوادث التي تؤيد آراءهم وعقائدهم ويهملون أو يتجاهلون -وأحيانا يحرفون- كل دليل ينهض علي بطلان تلك الآراء والمعتقدات، ومِثْل ذلك الرجل المنكر لتأثير صناديق النذور فأخذوه إلي معبد وعُرضت عليه عشرات الصور التي علقها من أنجاهم الله من الغرق استجابة لدعائهم ولكنه سأل "أين صور أولئك الذن أغرقوا في اليم رغم ما نذروا وما دعوا".

بصرف النظر عن مدى اقتناعنا بالنذور من عدمه الآن؛ إلا أن المثال يؤكد حالة من الرفض المبدئي لأي أمر يتنافي مع قناعاتنا الراسخة، وبالتالي نحاول أن نجد أي بناء قد يبدو منطقيا لإثبات وجهة نظرنا حول أمر ما مهما كان مخالفا للمقدمات.

هذا يبدو طبيعيا أو بمعني أدق إنسانيا علي مدي واسع من البشر خاصة في تفسير الإجراءات؛ ولكن من المنطقي أن تجد البعض يحاول التخلص من هذه القناعات المسبقة التي تحاصره وتجعله في حالات كثيرة يقلب الحقائق ويضع كل المشاهد في الإطار المسبق الذي صنعه.

وصعوبة التخلص من القناعات السابقة قد تكون إنسانية وطبيعية إذا فسرناها علي أنها أوهام الكهف كما قال بيكون؛ أما إذا كانت لا تتعلق بالوهم الكهفي وتتعلق بحسابات أخري تحقق مصالح مباشرة للمتمسكين بها فلابد من التوقف، وخاصة عندما تكون المتناقضات شديدة الوضوح؛ فمثلا رجل النذور المذكور بالأعلى لا يمكنه الادعاء بما قال لو كانت له لوحة معلقة في مكان النذور ليشكر الله على نجاته من اليم، في هذه الحالة لا يمكننا اعتبار ما يقوله وهما كهفيا ولكنه بالتأكيد شيء آخر؛ وما يثير الدهشة بشكل أكبر أن يصدر عنه هذا القول وهو حاملا لوحته في يده.

إن هذه الحالة التي تبدو متناقضة ومستفزة وربما مستحيلة أصبحت ظاهرة عامة، ولم تقتصر فقط علي متواضعي الفكر والقيم ولكن تجاوزت ذلك لتملأ مساحات ليست بالقليلة من المفترض بهم قيادة الجماهير.

من الطبيعي أن يختلف الناس كل طبقا لما يراه صحيحا ويدافع عنه ويحاول تطوير قناعاته وأفكاره؛ أما من غير الطبيعي أن ينسي كل منا لوحاته الموجودة في غرفة النذور ويهاجم أصحاب اللوحات الأخري، ففي هذه الحالة يصعب تصديقه؛ بل ومن الأخلاقي أن نلتقط له الصور بجانب لوحته المعلقة أو لوحته التي يحملها لنذكره بها حتي لا ينساها.