النظم المستبدة في شرق الدنيا وغربها بالغباء الشديد والتقليلدية المقيتة ، فهي تكرر نفسها وتعيد الوقوع في نفس الأخطاء رغم مرور عشرات السنين الضوئية بين تجربة المستبد الأول والمستبد الأخير.
بالأمس أعلن النظام الانقلابي عن ضرب الفساد في وكر من أوكار الدولة وهو مجلس الدولة ( جهة قضائية ) في محاولة لتشويه مجلس الدولة الذي رفض حتى الآن الخضوع لابتزاز وضغط النظام في موضوع قضية مصرية تيران وصنافير، وهي القضية التي توشك أن تحكم فيها المحكمة الادارية العليا بمصرية الجزيرتين في 16 يناير الجاري واستبقتها حكومة الانقلاب بالتوقيع عليها وتحويلها الى مجلس نواب الانقلاب لتفويت الفرصة على المسار القضائي حتى لو حكمت الادارية العليا بمصرية الجزيرتين .
إذن ما نراه هي لعبة شد وجذب بين أركان نظام الانقلاب، السيسي وجناحه العسكري الذي يرى أن القضاء قد خذله في قضية الجزر وفي قضايا معروضة عليه في ما يسمى بالحرب على الارهاب، والقضاة ادركوا بعد ثلاث سنوات ونصف من الانقلاب أن السيسي يتربص بهم الدوائر ويرسل لهم رسائل ملغومة عبر فتح وفضح ملفات الفساد سواء كانت حقيقية أم مزورة لتشويه صورة القضاء المشوهة أصلا في عيون الشعب المصري وفي عيون غيره في المنطقة .
بدأت قضية الفساد الكبرى بموظف اقتحموا منزله وصوروه مع أموال قالوا إنها رشاوى ونسي مخرج الفيلم( !!) أن الرشوة لا تكون إلا بوجود رشوة وراش ومرتش فإذا ضبطت الأموال والمرتشي فأين إذن الراشي؟ هنا دخلت القضية في منعرج جديد، إذ على ما يبدو أن الرجل الذي ضبطوه مع أمواله المتعددة الجنسيات قد رضي بصفقة بموجبها يمكن اخراجه من القضية مقابل الايقاع بآخرين كان من بينهم أمين عام مجلس الدولة وهو رجل مهم في مؤسسة مجلس الدولة .
الرجل ( المستشار ) أدرك أنه وقع فريسة لمؤامرة كبرى وعملية نصب سياسية تصب لصالح النظام أو أحد اطرافه لذا قرر أن يتقدم باستقالته ويتقدم بتسليم نفسه للنيابة، فتوجه بنفسه الى فندق الماسة (أحد أشهر فنادق القوات المسلحة في مصر) ليبيت فيه ليلته قبل تسليم نفسه، وتصور الرجل أن في ذلك رسالة لمن يتعقبه أنه موجود في حماية القوات المسلحة وبالتالي تصور -الله يرحمه- أن الرقابة الإدارية أو غيرها لا يمكن أن تقتحم المكان، أو ربما أراد القول لمن يجري خلفه أن لديه ما يقوله فابتعدوا عني، ولكن الإشارة كانت قد سبقت لمن يتعقبونه " أن اعتقلوه " فأسقط في يد الرجل لأن اعتقاله إهانة خصوصا وأنه استقال، وسلم نفسه جسديا للقوات المسلحة من خلال تواجده في أحد فنادقها، وأعلن استعداده للذهاب للنيابة صباحا لولا إجازة رأس السنة ولكن القوم لاحقوه .
في النيابة احتجز الرجل لساعات ولعله أفصح عن خطته فهو ليس طفلا أو غر صغير بل مستشار كبير القيمة والقامة في مجلس الدولة وهو مؤسسة قضائية عريقة، وهنا تحول مسار القضية من الكشف عن قضية فساد كبرى إلى إسكات صوت ممكن أن يضر بالجميع، هذا سيناريو محتمل .
السيناريو الآخر هو أن الرجل كان محتجزا في الرقابة الإدارية يعني في مكان ( فخم ويطلق عليه VIP) وليس في مجرد قسم شرطة أو احتجاز تحت الأرض، وبالتالي وكصيد ثمين كان يجب الابقاء عليه لو أراد السيسي فعلا أن يقدم نفسه على أنه قائد حركة التطهير كما يزعم.
هنا يجب السؤال عن الاجراءات الأمنية المطلوبة للحفاظ على متهم محتمل بهذا الحجم ؟ والسؤال عن كيفية ترك رجل بهذا الحجم والقيمة للسماح لنفسه بالانتحار إذا افترضنا أنه انتحر؟
السؤال الأهم كيف يمكن أن ينتحر رجل بكوفيه، ثم يروي البعض قائلا أن الكوفية لم تنجح في إنهاء حياة الرجل فلجأ إلى قتل نفسه بخنق نفسه بيديه (لا تضحك) وأين الحراسة؟ وهل لدى السلطة ما يثبت ذلك؟ هل نتخيل أن مقر الحجز بالرقابة الإدارية ليس به كاميرات تصوير مراقبة المحتجزين خصوصا القطط السمان من هذا النوع؟
ثم فوق ذلك كله لماذا وفجأة تم اصدار قرار من النائب العام بوقف النشر في الموضوع؟
جرت العادة في بلادنا على التخلص من خيوط الجريمة من أجل حماية بقية أفراد العصابة، كما جرت أن اطرافا تتصارع تتدخل في الوقت المناسب للتضحية بكبش فداء صغير من أجل حماية الحمر الوحشية الضخمة.
المتعارف في العالم هو أن يقال فلان استقال أو أقيل، وفي مصر لدينا تعبير آخر هو (استقيل) وتعني الجمع بين الاستقالة والاقالة، يعني أجبر على الاستقالة ليخرج المشهد بشياكة.
في العام يقولون فلان انتحر، أما عندنا فلدينا تعبير آخر وهو (استنحر) أي نحر ثم قيل أنه انتحر ليخرج الجميع من القضية بشياكة أيضا.
عموما سلو بلدنا كده، عشان كده الموضوع محتاج جراحة.... جراحة كبرى ...