بإمكان روسيا أن تحقّق بعض أهدافها قصيرة المدى عبر استخدامها للعنف بأقصى درجاته ضد الثوار السوريين، ومن خلال توظيف قوتها الدبلوماسية في مجلس الأمن، لكن هل تستطيع روسيا ضمان مصالح مستقرة ودائمة لها في سورية والمنطقة بالوسائل والأدوات التي تستخدمها الأن، والأهم من ذلك، هل بإمكانها القضاء على الثورة السورية وسحقها نهائيا؟.
ليس خافيا أن الجزء الأكبر من الأهداف الروسية في سورية هو اكتساب مكانة الدولة الفاعلة في الحدث العالمي، وذلك جراء تقدير صانع القرار الروسي أن أمن روسيا ومصالحها باتا في خطر في ظل استهتار الغرب بتلك المصالح جراء تمدد حلف الناتو والاتحاد الأوروبي إلى الفضاءات، التي كانت تعتبر حتى وقت قريب الحديقة الخلفية لروسيا، وهو ما يشكل في الاعتقاد الروسي إطباقا على روسيا ومحاصرتها في الطريق إلى إخضاعها نهائيا للغرب.
إلى ذلك، وجدت الذهنية السياسية الروسية، المأزومة والانتهازية في الوقت ذاته، في الحدث السوري ضالتها، ذلك أن أحد أهم مواصفات سورية الجيوبوليتيكية أنها غير مهمّة للغرب، نظرا لأسباب اجتماعية واقتصادية، على اعتبار أن سورية ليس فيها نخب كثيرة مرتبطة بالغرب تاريخيا، والمزاج العام للسوريين طالما كان مرتبطا بالفضاء العربي والقومية العربية، وبالتالي لا توجد خبرات غربية كافية للتعامل مع السوريين، فضلا عن حقيقة أن سورية ليس لديها ثروات من تلك التي تجعل الغرب يهتم بها، وكل ذلك يسهّل من التدخل الروسي وصولا إلى حد التحكم في مصير شعبها، دون محاذرة أي اعتراض دولي فاعل.
تلك المعطيات، ورغم الإغراءات التي تقدمها لروسيا، غير أنها مضللة في جزء كبير منها، كما أن مقدماتها غير حقيقية، فلا يكفي أن تكون روسيا دولة عظمى عسكريا لضمان تحقيق أهدافها، ذلك أنه في التجربة التاريخية للقوى العظمى أنها ما لم تتمتع بقدر كاف من القوة الناعمة فإنها تتحوّل إلى قوّة صلبة يسهل انكسارها، حتى في مرحلة الاستعمار كانت القوى العظمى في حينه تستند بدرجة كبيرة على قوتها الناعمة، من خلال مشاريع التطوير، حتى لو بدت شكلية، غير أن ذلك عادة ما وفّر لها مساحة للتفاوض والتعاطي مع المجتمعات المحلية والنخب السياسية في البلدان التي تستعمرها.
كما أن أي قوى عظمى من دون بعد أخلاقي لا يمكنها تحقيق مصالحها بالمطلق، أمّا أن تتحوّل للكذب، أداة للترويج لسياساتها، وتشغّل نفسها لخدمة طاغية تتلطى خلفه لصناعة أمجاد وتحقيق مصالح جيواستراتيجية وتسعى للاستثمار في ألام شعب أنهكته سنوات الاستبداد وتحالف قوى انتهازية ضده، فتلك حسابات خائبة، ولا تليق بتفكير دولة تعتبر نفسها من كبار الفاعلين على المستوى العالمي.
واقعيا، يمكن لروسيا إحداث أعطاب كبيرة في بنية قوى الثورة في سورية، وهذا الأمر يناسب الحسابات القصيرة جدا، لكنها لا يمكن أن تشطب قوى الثورة نهائيا، كل ما ستفعله أنها ستجبرها على تغيير أساليب عملها وهيكلياتها، والعمل بطريقة مجدية أكثر ضد الخصم وأقل تكلفة بالنسبة لها، وهو ما من شأنه إطالة عمر الأزمة وزيادة في التمزقات الحاصلة في جسد المنطقة الاجتماعي والسياسي ويراكم رصيد الفوضى المرتفع في المنطقة.
لا يدرك صانع القرار الروسي انه في سورية يقاتل على خطوط صدع كثيرة، ويتجاوز خطوطا حمرا يدركها كل من يعرف أبجديات السياسة الدولية، غير أن المشكلة تكمن في حسابات قادة روسيا وطريقة ترتيبهم للمخاطر وتقديرهم للفرص الممكنة والمتاحة، ورغم الحذر الذي ادعته روسيا أنها لن تجازف في الغرق بالمستنقع السوري، وذلك من خلال عدم إرسالها للجنود، وأنها تتعاطى بذكاء في هذا الجانب باستغلالها حماسة إيران وحزب الله لتحقيق مكاسب إقليمية، إلا أن هذه الحسابات تبقى ناقصة، ذلك أن الضرر الأمني الذي من الممكن تحقيقه ضد روسيا لن يتمثل بمقتل جنودها، على ما كان عليه الحال في التجربة الأفغانية، في النهاية سيجد خصومها، من الثوار السوريين والمتعاطفين معهم، مخارج للتعاطي مع هذا الأمر، وفي النهاية ستجد روسيا مدفوعة للعمل بردة الفعل، وهو ما سيشكل وصفة لاستنزافها وتعميم الفوضى في المنطقة لسنوات، إن لم يكن لعقود طويلة.