انتشر في الأيام الأخيرة الماضية تسجيل مصوّر يُظهر جنودًا من القوات العراقية المهاجمة لمدينة الموصل، بمساعدة المليشيات الشيعية التي تعرف باسم "الحشد الشعبي"، وهي تسحق بإحدى الدبابات طفلاً عراقيًّا من تلك المدينة، يبدو أن جريمته الوحيدة أنه من تلك المدينة التي توعّدها رؤوس هذا الحشد، أو أنه امتداد لقتلة الحسين، أو امتداد "لمغتصبي الخلافة من علي قبل 1400 سنة"، كما يرى رؤوس الحشد، والذين استعرضنا بعضًا من تصريحاتهم في مقالتنا الماضية الموسومة بـ "معركة الموصل وجذور الخطاب الطائفي".
الجيش العراقي الذي تنجم عنه مثل هذه الممارسات هو جيش الطائفة، وإعادة صياغة رسمية وعلى نحو أكثر تهذيبًا لمفهوم جيش المذهب الممهّد لظهور "الإمام المهدي"، أما "الحشد الشعبي"، فقد مارس لعبة لغوية مكشوفة للتغطية على طبيعته الطائفية الخالصة، ولكنها لعبة فاضحة، فالشعب هم الشيعة، والفرق الوحيد بين "الحشد الشعبي" والحشد الشيعي هو الفرق الصوتي، أما المضمون فواحد، وبهذا تنمحي تمامًا أي فروق بين النسخة العسكرية الرسمية المهذّبة، وبين النسخة العسكرية الطائفية الشعبوية الأكثر صراحة ووضوحا.
لم تكن هذه الممارسة هي الأولى الصادرة عن هذا الفريق، منذ اندلاع الحرب الأهلية العراقية قبل عشر سنوات، حينما أخذ مقاتلوه في تهجير العرب السنة من مدن الوسط والجنوب، وتحفير عظامهم بالدرلات، أما وبعد ظهور "داعش"، فقد صوّر مقاتلو الحشد الشيعي بجوالاتهم العديد من الحوادث المشابهة والتي كان منها حرق أسراهم من "السُنّة" كالخراف، إلا أن أيًّا من هذه الحوادث لم يلق الاستنكار الذي لقيته أفعال "داعش" المشابهة، لا من الأوساط الدولية ولا من الأوساط الشيعية.
جوهريّا، لا فرق بين ممارسات الحشد الشيعي و"داعش"، ولا حتى في البنية الفكرية المؤسسة لوجود كل منهما من جهة نظرهما لعموم الأمّة، حتى لو كان الأول شيعيًّا والثاني ينسب نفسه لأهل السنة والجماعة، ويظلّ الفرق في شكل إدارة عمليات القتل والتنكيل وعمليات الدعاية.
يفتخر "داعش" بعمليات التنكيل والتمثيل والتعذيب التي يقوم بها، وهو وإذ يعلن عنها في منتجات دعائية بالغة الاحترافية، فإنه يحاول تأصيل أفعاله شرعًا بإعادة تأويل النصوص الشرعية وأقوال الفقهاء المتقدمين، ومن نافلة القول إن هذا التنظيم في أصل مقولته الفكرية ينشأ عن رؤية احتكارية إلزامية، تماهي ما بين خطابه والشرع، فالتأويل الوحيد الذي يطابق قول الشرع لدى "داعش" هو تأويله.
لا يُقدِّم "داعش" نفسه إلا بصفته التعبير الوحيد والحصري للإسلام، في نتيجة طبيعية لجملة تدرّجات سبقته، بدأت بتضييق الإسلام ثم مفهوم أهل السنة والجماعة في تيار واحد انقسم على نفسه عدّة مرات، وبصورة تنفي هذه الأمّة العظيمة، وتصادر اسمها لصالح هذه المجموعات المنقسمة، والتي تدّعي كلّ منها أنها تعيد تنزيل الوحي بما يطابق مقاصد الوحي، والأمر في هذه الحالة كثيرًا ما كان يبدو متجاوزًا للاستبطان، إلى الوعي الصريح المعلن، وهو أوضح ما يكون اليوم في مجموعة "داعش".
تتحول الفكرة هنا إلى عامل انقسامي افتراقي يستهدف داخل الأمّة أولاً، والتي ستظلّ على ضلالة أو واقعة في الكفر ما لم تلتزم تعاليمه، وبعبارة أخرى فإن العدوّ هنا في الداخل، وهو عمومًا الأمة، أو كل جماعة في الأمة لا تلتزم تعاليمه، وقد تدرّجت هذه الفكرة وصولاً إلى "داعش"، وسبق وساهمت هذه الجماعات التي مهّدت لـ "داعش" في تدمير جهاد العراقيين، حينما بدأت في تصنيفهم وتكفيرهم وتضليلهم ومحاولة فرض جماعة واحدة عليهم، منذ زمن الزرقاوي، حتى ازدادت الفكرة توحشًا مع آخر نسخها.
لكن ظلّ هذا التيار، بما في ذلك الحالة الجهادية منه، حالة صغيرة ومحدودة في أهل السنة الذين يتشكلون مبنى ومعنى أمة لا طائفة، وهذا التيار لم يكن على صورة واحدة، وقد مارَسَ على نفسه نقدًا داخليّا شديدا، كما مارس عليه عموم أهل السنّة نقدًا داخليًّا لا يقلّ شدّة، ولم ينجح في النهاية في احتكار التعبير عن أهل السنّة، والذين ظلّوا يرون أنفسهم أمة عصية على كل محاولات تحويلها إلى طائفة مذهبية صغيرة.
إنّ التماثل هنا ما بين "داعش" والحشد الشيعي رغم اختلاف الأصول المذهبية بينهما، متعلق بكون كل منهما يفترض أن عدوه في الداخل، في كل من لا ينتمي إليهما، فالحشد الشيعي يصدر عن رؤية انشقاقية بطبعها، ترى أن هذه الأمّة كانت على ضلالة منذ وفاة النبي إلى اليوم، وأن الحق كله متجسد في طائفة واحدة تجسّد بدورها مذهب أهل البيت الذي يمثلون بحسب هذا الفهم الامتداد المستمر للنبوة في التاريخ والنّاس.
وعي التجسيد والحلول والاحتكار في الحالة الشيعية التي يصدر عنها هذا الحشد أوضح وأبلغ من تلك التي يصدر عنها "داعش"، فقد جرى تقزيم الإسلام في عائلة مقدّسة، وجرى تقزيم اجتهاد هذه العائلة في طائفة بعينها، واجتهدت هذه الطائفة عبر التاريخ بمثابرة كبيرة في اصطناع تمايزات تخلق لها هوية دينية واجتماعية مفارقة، واعتُبر عموم الأمة عدوًّا أصيلاً قائما ومستمرا، لأنه الاستمرار الطبيعي "للخطيئة" الأولى في سقيفة بني ساعدة!
ولم يكن الأمر محض نظرية مبثوثة في بطون الكتب، ولكنه جملة ضخمة من الشعائر والطقوس التعبوية، التي تعزّز الافتراق من جهة، وتعزّز تكريس العدوّ المقابل في الأمّة من جهة أخرى، بينما في المقابل لا يمتلك "داعش" مثل هذا الوعي الثأري تجاه التاريخ، أو تلك المقولة الضخمة المعزّزة بتراث بشري ونظري هائل، وبالإضافة لممارسته الذاتية فإنه انبثق عن تيار قاتل عدوًّا خارجيًّا، بينما ارتبط الوعي بالعداء للاستعمار بشكل أساسي لدى التيار الشيعي مع الثورة الإيرانية وقتال حزب الله للعدو الصهيوني.
الفارق الأهم في هذا السياق، أن "داعش" والتيار الذي تسلسل وصولاً إليه ظلّ حالة محدودة تتعرض لنقد هائل من فريق الأمّة الكبير المدعو "أهل السنة والجماعة"، ولكن وبالرغم من حركات التصحيح التي عرفها التشيع الإمامي الاثني عشري، وظهور الصراع الكبير بين مدرستي الأخباريين والأصوليين، بالإضافة إلى تمايزات التيارات والجماعات والمراجع داخله، فإنّه سرعان ما يرتد بنية واحدة صلبة ما كان عدوّه هو ذلك الفريق الكبير في الأمة.
لذلك فإننا لا نشاهد من عموم الشيعة بكل تياراتهم وجماعاتهم ومراجعهم نقدا جادّا لممارسات الحشد الشيعي، أو لخطابه الطائفي، ولا توصيفا صحيحا لها، من قبيل وصفه بالطائفية أو الإجرام، وقد ظلّت عمليات النقد الشيعية في أجواء الصراع والتوتر محدودة في عدد قليل من الأسماء والشخصيات، بينما واجه عموم الأمة (أهل السنة) تنظيم "داعش" بالإدانة والتجريم، وقد قاتلته الفصائل الثورية السورية، وقاتله العراقيون من قبل.
ونشاهد كذلك سقوط كل الشعارات إذا ما تعلق الأمر بالمثيل الطائفي، تماما حينما والت وحالفت وناصرت القوى الشيعية "المعادية للاستعمار" مثيلاتها العراقية التي رجعت على ظهور الدبابات الأمريكية، والتي تقاتل إلى جانب أمريكا اليوم في الموصل.
وبالرغم من ذلك يبدو هذا الفريق الشيعي وكأنه مقتنع بدعايته التي يتهم فيها خصومه حصرًا بالتكفير والإرهاب والتطرف والطائفية والعمالة لأمريكا، مع أنه متورط بكل ما يرمي به خصومه وعلى نحو أعمق وأخطر.
لكن يبقى سؤال مثير آخر، فبالرغم من الخطاب الطائفي، والممارسة الإجرامية التي تقترفها قوى الحشد الشيعي، فإنّ القوى الغربية التي تجعل من صميم مهماتها تصنيف "الجماعات الإرهابية الإسلامية"، لا تدرج في ذلك التصنيف قوى الحشد الشيعي التي تقترف تلك الجرائم، فهل هو تحالف ضمني بين الطرفين؟ أم هي معرفة غربية بالطبيعة الانشقاقية لتلك القوى؟ وهي معرفة تنتج مثل ذلك التحالف الضمني.