"تحرير الموصل؛ انتقام وثأر من قتلة الحسين؛ لأن هؤلاء الأحفاد من هؤلاء الأجداد"، هكذا كانت المعالجة التي تقدّم بها قيس
الخزعلي، الأمين العام، لعصائب أهل الحقّ الشيعية
العراقية، لتفسير المعركة الدائرة الآن في الموصل، والتي تديرها أمريكا، بمشاركة الجيش العراقي ومليشيات الحشد الشعبي، وقوات البشمركة الكردية.
وبهذا يتوجب علينا أن ننسى عقولنا التي في رؤوسنا، كي نتعامل مع هذا الهذيان على أنه "معالجة سياسية" متجرّدة من أي نزعة طائفية، وأن نبحث عن موقع أمريكا في معركة الانتقام من قتلة الحسين، وذلك قبل أن نتساءل عن علاقة أهالي الموصل، بقتلة الحسين، وعن الحبل التاريخي الممتد الذي يربط قتلة الحسين بأهالي الموصل، أو حتى بـ "
داعش"!
وبحسب الدعاية التي يحترفها المحور الذي تنتمي إليه مليشيات الخزعلي، أي دعاية اتهام الخصوم بالتكفير والطائفية والوهابية والعمالة لأمريكا (أرجوك لا تضحك)، فليس لنا أن نتساءل عن طبيعة الوعي الذي يحرّك هذه القوى التي يمثّلها الخزعلي، فمثل هذا التساؤل، فعل طائفي خالص، تمامًا كما هو الحال حين انتقاد أي فاعل سياسي، ينتسب إلى التشيع بمحض إرادته واختياره، ويبرز هلوساته الطائفية في "خطابه السياسي"، بمعنى أن الخطاب الطائفي، ليس هو الذي يقدّمه الخزعلي وشركاه، ولكنه الانتقاد الموجّهة للفاعلين السياسيين الشيعة!
لم تكن هذه هي المرّة الأولى، التي تُقدّم فيها شخصية سياسية تنتمي إلى المحور الإيراني، كشفًا طائفيًّا خالصًا لسياساتها، ولاسيما أن التمحور الطائفي، هو السّمة الأبرز في التشكّل لهذا المحور الآن، ويمكن لنا هنا أن نستعرض، أن أهم أدوات المحور التي سوّقت له تاريخيًّا من بوابة قتال الاستعمار، قد عبّأت جنودها للقتال في سوريا، بهاجس الدفاع عن مقام السيدة زينب.
وسيلة الحشد هذه تستبطن وعيًا مماثلاً لوعي الخزعلي، يرى أن الفريق الآخر في الأمة، أي متن الأمّة الأساس، وامتدادها الطبيعي في التاريخ، عدوّ مستمر لآل البيت، ولا يقل عنها كشفًا عن الوعي الطائفي المهيمن؛ السقوط في اختبار الشعار الأساس، أي شعار العداء للاستعمار، فـ "حزب الله" قد سقط في هذا الاختبار منذ أن تولّى الأحزاب الشيعية العراقية التي رجعت على ظهور الدبّابات الأمريكية، فما يحق للمثيل الطائفي لا يحقّ لغيره!
ولكن؛ يظلّ أعضاء المحور من العراقيين أكثر صراحة ومباشرة في التعبير عن الأسس الطائفية لخطابهم وممارستهم تجاه خصومهم داخل الأمة، الأمر الذي يعني أن قضيتهم في الأساس قضية انشقاقية داخلية، تنظر إلى التاريخ بوعي ثأري، وتنظر إلى الأمة بوعي افتراقي.
يمكن لنا أن نسترجع خطاب وجه سياسي واضح، وهو نوري
المالكي، الذي قال ذات مرّة "الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم موجودون، والحسين بلون آخر لا يزال موجودًا، هو الذي يُستهدف من هؤلاء الطغاة، وهذا يعطينا رؤية بأن الجريمة التي ارتكبت بحقّ الحسين لم تنته"!
ما الفرق الجوهري بين خطاب الخزعلي، وصاحب هتاف "زينب لن تسبى مرتين"، ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي؟!
كلهم يرون أن خصومهم أعداء للحسين، وأن قتلة الحسين جوهر مستمر في التاريخ، متعين يقينًا في خصومهم، وأن التفريغ الطبيعي للشحن المتراكم عبر القرون بتأبيد المأساة التاريخية؛ لا يكون إلا بافتراض عدوّ موجود في الواقع يبرر تأبيد المأساة التاريخية.
إذ لا مجال لتصريف رواية الحزن والانتقام، وادعاء التمثيل الحصري لآل البيت، وخلق هوية خاصّة افتراقية تنزع بشدّة نحو الافتراق والتمايز في كل شيء؛ إلا بافتراض الاستمرار التاريخي لأعداء آل البيت التاريخيين الذين يفترضهم الوعي المشحون بالثأر والخرافة وتوهم الامتياز الإلهي، من السقيفة، إلى معارك الجمل وصفّين، إلى كربلاء، إلى الموصل وحلب اليوم!
هذا الخطاب لا يستهدف في الحقيقة "الإرهابيين، التكفيريين، الوهابيين"، (الذين يجري حصرهم فيما يسمى بأهل السنة، مع ما في ذلك من مغالطة تتجاوز الطبيعة التكفيرية اللازمة للفكر الافتراقي، وهي طبيعة مقررة فعلاً في النصوص المذهبية المؤسِّسة)، ولكنه يقصد هؤلاء الذين ليست لديهم أي مشكلة مع التاريخ، ولا مع أي أحد من الصحابة!
يبدو هذا واضحًا مثلاً، في خطاب ألقاه قبل أكثر من عام، أيام معركة تكريت، أبو وارث الموسوي الناطق باسم "المقاومة الإسلامية، حركة حزب الله، النجباء" في العراق وهو يخاطب أهل تكريت ومن خلفه صورة الخامنائي، قائلاً لهم: "نحن لم نسرق بيوتكم، ولكنكم سرقتم منا الوطن منذ 35 عامًا، بل منذ 1400 عام"؟!
هذا الرجل واضح، في أنه يرى فريقه، امتدادًا لعلي، ويرى أهل تكريت امتدادًا للصحابة الذين اختاروا أبا بكر في السقيفة، وهو وإذ يعيد تأويل التاريخ وفق أسطورته المذهبية، فإنه لا بدّ وأن يرى جاره العراقي الذي لا يرى التاريخ كما يراه، عدوًّا له، مغتصبًا لحقّه، ثم لك أن تتخلى عن عقلك مرة أخرى، إن أردت أن تتعامل مع هذا الوسواس على أنه كلام سياسي محترم!
نعم، لا بد وأن تتحول –في لحظة ما مهما تأخرت- التعبئة القائمة على الحقد والثأر والانتقام وتأبيد التاريخ والإمعان في اصطناع الهوية المختلفة؛ إلى مشكلة دموية موضعية محليّة، فيصير الجار، أو المدينة الجارة، هي العدوّ، لأن خطاب هذه التعبئة في الأساس يستلزم عدوًّا قريبًا، ومن هنا تتأتّى صراحة جلال الدين الصغير، وهو أمين عام سرايا أنصار العقيدة ووزير أوقاف سابق، إذ يخاطب أهل الموصل: "خطابي إلى أهل الموصل: ترى يومكم جاي، لا تفتكرون إننا خلصنا شغل"!
لك بعد ذلك أن تعجب، أن أصحاب هذا الخطاب، يتهمون خصومهم بالتكفيرية والظلامية والطائفية ونقل معارك الأمة إلى داخلية بدلاً من مواجهة الاستعمار!