يدرك الرئيس عبد الفتاح السيسي وأركان نظامه وأجهزة الدولة أن البلاد تقترب من لحظة الحقيقة، لحظة الصدام الذي لا يعرف أحد حجمه ولا مداه ولا عواقبه، ولا يحتاج المراقب كثير تأمل لكي يستشعر حجم القلق والخوف الكامن في ضمير السيسي وهو يتحدث عن القرارات المؤلمة المقبلة، وتكرار تأكيده أنه ليس خائفا، وأنه قادر على اتخاذ القرارات التي خشي من سبقوه من اتخاذها، ولكنه لا يتخذها حتى الآن، ويقدم رجلا ويؤخر الأخرى، هو يعرف جيدا أنها مثل مقامرة خطيرة، كما أن حظه السيئ أن وضع البلاد الآن وقبل تلك القرارات سيئ بالفعل، والناس تجأر بالشكوى الآن وقبل ما هو أصعب، فكيف عندما تنزل "الطامة الكبرى" على رؤوس الملايين من الفقراء والكادحين، الذين فقدوا الإحساس بطعم الحياة من ضغط الحاجة.
هناك أكثر من إشارة تحذير للسيسي وأجهزته صدرت الفترة الأخيرة، أكثرها بؤسا وإيلاما واقعة إقدام سائق تاكسي على حرق نفسه أمام أحد المنشآت التابعة للجيش بالاسكندرية، والجميع يتذكر أن مثل هذه الواقعة كانت المفجر الرئيسي للثورة التونسية التي ولدت طوفان الربيع العربي، والإنذار الآخر كان في صرخة سائق التوكتوك التي هزت الضمير الوطني وأثارت من الجدل ما لم تثره أعظم خطبة سياسية للسيسي نفسه أو غيره، ويمكن أن تولد صرخات أخرى عديدة في الفترة المقبلة، فحاجز الخوف تم كسره في يناير 2011 ويستحيل أن تعيد بناءه اليوم، البنية النفسية للمجتمع اختلفت، كما أن الظروف الموضوعية تعمل ضدك، فهناك ملايين الآن ـ كما هو واضح ـ استوى عندها الموت بالحياة في هذا البلد، فمن يحرق نفسه من ضغط الفقر والحاجة لا يمكن أن تخيفه بأي عقوبة، لأنه ليس بعد الموت عقوبة، والشباب الذين نجوا من مركب رشيد الغارقة وهم يهاجرون خارج البلاد بحثا عن "حياة" كريمة، قالوا عبر الشاشات وأمام الجميع أنهم سيكررون المحاولة، لأنهم لا يخشون الغرق والموت، فهم "كده كده ميتين" حسب قول أحدهم، هذه إشارات خطيرة للغاية ولا أظن أن الحاسة السياسية للنظام السياسي تبلدت لدرجة ألا تستشعرها أو تدرك خطورتها.
الجدل سهل، والوعود بالعسل واللبن والياقوت والمرجان فقدت قيمتها ورصيدها ولم يعد أحد يثق فيها، بعد أن تبخرت كل الوعود والمواعيد السابقة التي قدمتها علانية للناس، والكلام ـ الحلو ـ ليس عليه جمرك كما يقول إخواننا اللبنانيون، والنفاق الإعلامي رخيص ويحسنه كل أحد، ودفن الرؤوس في الرمال باتهام كل من يصرخ بأنه إخواني أو أنه مدفوع الأجر أو بأنه منحرف أخلاقيا أو سلوكيا أو "مسجل خطر"، كل ذلك لن يفيد عندما تقع الواقعة، كل هذا الكلام سيتبخر ولن تجده ولن تجد أصحابه أنفسهم حولك، والعاقل من اتعظ بغيره، تذكر السادات وتذكر مبارك، كما أن الرهان على امتلاك أدوات الردع ليس شيكا على بياض، فلها حدود لا يمكن لأجهزة الدولة ومؤسساتها تجاوزها، وعندما تصل بالوطن إلى لحظة الاختيار النهائي بين الحفاظ على الشعب أو الحفاظ على شخص ـ أيا كان ـ فالمعادلة ستكون محسومة وبديهية، ومصر ـ بمؤسساتها الصلبة ـ ليست سوريا، وليست العراق، ولن تكون.
مصر بحاجة إلى مسار جديد، وربما قيادة جديدة، فالفشل أصبح عنوانا واضحا لتجربة السنوات الثلاث الماضية، اقتصاديا وإداريا وقانونيا وسياسيا وأمنيا، والمشكلة أن القيادة الحالية تتخذ العناد منهجا من أول السلم، ولا تفكر في إعادة النظر الجذرية للمسار الفاشل، سعيدة بنخبة محدود ومنتفعة تطبل حولها وتغرقها أكثر وتقنعها بأنها "ملهمة" ومنقذة، لكن المشكلة في "الشعب" الذي لا يفهم ولا يصبر، لم يعد هناك أي تفكير في طرح خريطة طريق وطنية جديدة، وتعيش القيادة في العزلة الإعلامية والنفسية التي ترى الوطن والناس من خلال شرائط الاحتفالات الرسمية ومجاملات من حوله، بل من فرط البذخ وسوء التقدير تجد "اختراع" الاحتفالات الرسمية الاعتباطية الصاخبة للسلطة كل عدة أسابيع في مصر أكثر منها في أي بلد "مترف" آخر، في حين أن الشعب يئن من فقدان ضروريات الحياة من غذاء ودواء أو فرصة عمل، هناك حالة انغلاق عقلي وشعوري كامل الآن للقيادة، تشعرك أن هذا هو "آخر ما عندها".
أشار السيسي إلى الأحداث المتوقعة يوم 11 نوفمبر المقبل، حيث هناك دعوات مجهولة للتظاهر، وقلل من شأنها، وهي دعوة غامضة ولا يعرف أحد من وراءها ولا حجمها، ولكن على كل حال، الخبرة المصرية مع أداء وإدارة "المجلس العسكري" للشأن العام ـ وكان السيسي أحد أعضائه ـ بعد ثورة يناير يجعلني أرجح أن أي قرارات اقتصادية صعبة وخطرة لن يتم إصدارها قبل 11 نوفمبر، وأعتقد أن هذا التاريخ والدعوات الغامضة للغضب فيه هو السبب الرئيسي، وربما الوحيد لتأجيل القرارات المؤلمة التي يعرف الجميع، داخل مصر وخارجها، أنها جاهزة ومفروغ منها، لكن تأجيل القرار لأسبوعين أو ثلاثة لن يفيد كثيرا، فانفجار الغضب لا يحدد بتاريخ، والثورات ـ كما نبض الزلازل ـ يصعب أن تتكهن بوقتها أو بحجمها وآثارها، وهذا هو الخطير.
المصريون المصرية