جدل لا ينتهي منذ ليلة أمس حول
نتائج الانتخابات البلدية في
تركيا
2024، ما بين ذهول من النتائج التي فاجأت الجميع، بمن فيهم المعارضة الفائزة، من
حجم الفوز، وما بين شغف متشعب للبحث عن أسباب منطقية لهذه النتيجة التاريخية، كما
فاجأت النتائج حزب العدالة والتنمية الحاكم أيضا، والحقيقة أن فوز المعارضة في حد
ذاته ليس مفاجأة، لاعتبارات كثيرة تتعلق بأخطاء الحزب الحاكم أكثر من تعلقها
بنجاحات المعارضة، المفاجأة كانت في حجم الفوز التاريخي.
حزب الشعب الجمهوري، أبرز أحزاب المعارضة وأقواها، حقق نصرا تاريخيا
لم يحقق مثله منذ 1977، وحصد أمس 37.7% من أصوات الناخبين، بعد أن كانت نتيجته في
انتخابات 2019 هي 30.1%، وانتزع 35 بلدية في عموم تركيا، منها البلديات الثلاث
الكبرى: إسطنبول وأنقره وأزمير، بعد أن كان رصيده 21 بلدية فقط في انتخابات 2019،
بينما حصد حزب العدالة والتنمية الحاكم 35،5%، بعد أن كانت نتيجته في انتخابات
2019 هي 44،3%، وحصد 24 بلدية بعد أن كان يحكم 39 بلدية في انتخابات 2019 .
لم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد، بل إن مجالس البلديات الكبرى
"بلديات الأحياء داخل المدن" خسرها أيضا حزب العدالة، ومنها بلدية
إسطنبول، حيث فقد الأغلبية في مجلس إدارتها، كما خسر بلديات مدن شهيرة هي تاريخيا
مضمونة له في كل انتخابات، مثل بلدية ولاية "مانيسا" التي لم يخسرها حزب
العدالة أبدا منذ تأسيسه، ومثل بلدية بورصة التي لم يخسرها أبدا أيضا، ومدينة
"بارتين"، ومدينة "دينزلي"، وبشكل عام يمكنك أن تكرر عبارة:
"لأول مرة" في عشرات النتائج لعشرات الولايات والمدن التركية في مفاجآت
كبيرة متتالية، وإن كان حزب العدالة قد حقق اختراقات "قليلة" مثل
انتزاعه بلدية ولاية "هاطاي" للمرة الأولى وهي تعتبر معقلا تاريخيا
للعلمانية ولحزب الشعب الجمهوري، كما أن فوز حزب العدالة ببلدية "غازي
عنتاب" إحدى كبرى المدن التركية في الجنوب له رمزية مهمة، لأنها المدينة التي
يسكنها أكبر نسبة من المهاجرين، ففوز العدالة بها للمرة الثانية على التوالي يبطل
ادعاءات بعض متحدثي الحزب بأن المهاجرين هم السبب في الخسارة الصاعقة للانتخابات
البلدية.
من المهم الانتباه إلى الفخ الذي ينتشر بأن الناخب التركي عاقب حزب العدالة بسبب موقفه من أحداث غزة، وهو طرح شديد السذاجة، وذلك أن المعارضة الفائزة موقفها أسوأ بمراحل تجاه غزة والمقاومة، ولم يتورع رئيس حزب الشعب "الفائز" عن وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب ووصف عملية 7 أكتوبر بالعملية الإرهابية، وهو درك سياسي لا وجه للمقارنة بينه وبين المواقف المشرفة لحزب العدالة والتنمية "الخاسر" في الانتخابات
الملاحظة المهمة أيضا، أن الأحزاب التي يتزعمها رموز سياسية قديمة،
مهما كان لهم من تاريخ، كلها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أي مكسب في تلك الانتخابات،
فحزب الدكتور أحمد داوود أوغلو "حزب المستقبل"، وحزب علي باباجان
"الحزب الديمقراطي"، وحزب السعادة بقيادة تمل كرم الله أوغلو، لم يصل أي
منهم إلى واحد في المائة، ربما باستثناء السعادة الذي لامس الواحد في المائة، وكلها
أحزاب لها خطاب محافظ أو يفترض أن قاعدتها من المحافظين، كما أن حزب الظفر
"النصر" الذي يتزعمه عدو المهاجرين أوميت أوزداغ، لم يحقق سوى صفر في
المائة تقريبا في تلك الانتخابات، بما يعني أن الخطاب المحرض على المهاجرين أو
الذي يوظف قضيتهم في حسابات سياسية رخيصة لا يمكنه أن يحقق مكسبا سياسيا في تركيا،
بينما حقق حزب "الرفاه الجديد" وهو حزب ناشئ فوزا مذهلا جعله الحصان
الأسود، برصيد تجاوز بقليل 6% .
أسباب تلك النتائج متعددة بطبيعة الحال، وهي بكل تأكيد تعود لأخطاء
الحزب الحاكم أكثر مما تعود لإنجازات المعارضة، فالمعارضة تقريبا بلا إنجازات،
باستثناء نجاح "منصور ياواش" في بلدية العاصمة أنقرة، وهناك إجماع على
أن أكرم إمام أوغلو فشل فشلا ذريعا في إدارة بلدية إسطنبول خلال الخمس سنوات
الماضية، وساءت أحوال المدينة، ومع ذلك فاز مجددا وبفارق مليون صوت عن منافسه
"مراد كوروم" مرشح حزب العدالة الحاكم، وهذا ما جعل أردوغان في كلمته
تعقيبا على النتائج أمس يعترف بالتقصير ويقول إن النتائج تلزمنا بممارسة النقد
الذاتي ومراجعة الأخطاء.
أخطاء حزب العدالة متعددة، في مقدمتها الاضطراب في إدارة الملف
الاقتصادي، وارتفاع نسبة التضخم، وتراجع سعر الليرة، وارتفاع الفائدة بعد أن كان أردوغان
يعلن الحرب عليها قبل ذلك، وأيضا تصريحات محمد شمشك وزير المالية المستفزة عن عدم
إمكانية رفع معاشات التقاعد، وهو تصريح مدهش قبل انتخابات يفترض أن يذهب إليها عدة
ملايين من أصحاب المعاشات التقاعدية والذين عاقبوه في الصناديق فيما يبدو، عندما
نسي أنه وزير سياسي قبل أن يكون تكنوقراط اقتصاديا.
من الأسباب أيضا ضعف أداء الحزب في ما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على
غزة، وللأمانة تركيا قدمت الكثير في هذا الملف، مساعدات متواصلة غذائية وطبية ودعم
سياسي وديبلوماسي مكثف وتسهيلات بلا سقف للقادة الفلسطينيين داخل تركيا ونقل
الجرحى والمصابين للعلاج في مستشفيات تركيا وأمور أخرى عديدة، لكن جرائم العدوان
كانت أكبر من ذلك كله، وتضغط على أعصاب المحافظين الأتراك وتؤلمهم جدا تجاه محنة
إخوانهم في غزة، وهو ما تسبب في إحباط القاعدة الانتخابية الأساسية لحزب العدالة
ومقاطعة ملايين منهم للانتخابات وهو ما صب في صالح المعارضة، ويكفي أن نعلم أن
نسبة التراجع في التصويت اقتربت من 14% في بعض التقديرات، بما يعني أن حوالي 9
ملايين مواطن على الأقل قاطعوا الانتخابات وهي ضربة هائلة للحزب، ويلاحظ أن النسبة
التي خسرها حسب الأرقام المعلنة وبالمقارنة مع انتخابات 2019 هي 10% وهي شبه
مطابقة لنسبة المقاطعين للانتخابات، بينما حشدت المعارضة أقصى طاقاتها في قواعدها
الانتخابية الثابتة.
دون أدنى شك فإن بطل المشهد الديمقراطي في تركيا هو هذا الرجل، رجب طيب أردوغان، الذي رعاها على مدار ربع قرن تقريبا، وكان أمينا معها، ووفى بعهده في احترامها وحمايتها وتعزيزها، ورسخ ميراثا للدولة المدنية، الشعب فيها هو الحكم وهو السيد وليس العسكر والدبابة أو العمامة، وحقق لبلاده مجدا سياسيا وعسكريا واقتصاديا واستراتيجيا، خلال عقدين فقط، يقترب من المعجزة.
ومن المهم الانتباه إلى الفخ الذي ينتشر بأن الناخب التركي عاقب حزب
العدالة بسبب موقفه من أحداث غزة، وهو طرح شديد السذاجة، وذلك أن المعارضة الفائزة
موقفها أسوأ بمراحل تجاه غزة والمقاومة، ولم يتورع رئيس حزب الشعب
"الفائز" عن وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب ووصف عملية 7 أكتوبر
بالعملية الإرهابية، وهو درك سياسي لا وجه للمقارنة بينه وبين المواقف المشرفة
لحزب العدالة والتنمية "الخاسر" في الانتخابات، فلو أراد الناخب معاقبة
حزب على موقف سلبي تجاه غزة لعاقب حزب الشعب الجمهوري بداهة، والحقيقة أنه من
الاستسهال المخل النظر لما جرى من هذا الثقب الضيق، وهو استسهال يصل إلى مستوى
السطحية في التحليل.
أيضا من أسباب خسارة حزب العدالة، المفاجأة الكبيرة التي حققها حزب
"الرفاه الجديد" برئاسة فاتح أربكان، نجل الزعيم التاريخي للتيار
الإسلامي في تركيا المرحوم "نجم الدين أربكان"، فقد فاجأ الحزب الناشئ الجميع وحقق نسبة 6،2%، وقاعدته الانتخابية هي نفسها التيار المحافظ الذي يصوت
عادة لحزب العدالة، أي أن الناخب المحافظ الذي اعترض على سياسات حزب العدالة منح
صوته لحزب الرفاه، وهذه هي الضربة العنيفة، خاصة عندما تعلم أن الفارق بين حزب
الشعب الجمهوري المتصدر وبين حزب العدالة لا يتجاوز 2%، فلو ذهبت 6% التي انتزعها
حزب الرفاه إلى العدالة كما كانت تذهب سابقا لصحح أوضاعه، وحزب الرفاه الجديد حزب
صغير جديد، لم يحقق أي نجاح سياسي أو انتخابي منذ نشأته، سوى دخول خمسة مرشحين له
في البرلمان الأخير، وكلهم دخلوا على أكتاف حزب العدالة وبدعمه، بعد أن تحالفوا
معه، بينما وقع الشقاق في الانتخابات البلدية بعد أن طمع الرفاه في أن يترك له
العدالة عدة بلديات مهمة رأى الحزب أنها أكبر من قامة حزب الرفاه وحجمه، وكانت
الدعاية الانتخابية لحزب الرفاه تتعمد الضرب في حزب العدالة تحديدا، كما كان يتلقى
دعما إعلاميا واضحا من حزب الشعب الجمهوري المعارض، رغم أنه تيار إسلامي والشعب
الجمهوري أبو العلمانية في تركيا، لكنها لعبة السياسة.
في تقديري أن النتائج خادعة، إذا كنا ننظر إلى موازين الثقل الحقيقية
الثابتة على الأرض والكتل الانتخابية، وأسبابها عارضة وليست أصيلة من إنجازات هنا
وإخفاقات هناك، كما أنها لا تغير كثيرا من قواعد اللعبة السياسية في الدولة
التركية محليا أو دوليا، بل ربما ساهمت في تعزيز السلام الاجتماعي لتركيا بجعل
المعارضة شريكا في إدارة الدولة وحكمها، لكنها أرسلت رسالة واضحة لحزب العدالة
الحاكم بأن شيئا من الترهل قد أصابه بسبب استرخائه في السلطة قرابة 24 عاما،
واعتماده دائما على كاريزما زعيمه التاريخي رجب طيب أردوغان، والقبول الشعبي
الطاغي له في البلاد، وأثبتت أن الحزب في حاجة ماسة وعاجلة إلى تجديد شبابه وتطوير
أدائه، والبحث عن وجوه شابة جديدة تتصدر لمرحلة يمثل الشباب عنصرا وازنا بين
الناخبين فيها، ولذلك تحدث أردوغان عقب ظهور النتائج ليلة أمس بأن ما حدث يوجب على
الحزب ممارسة النقد الذاتي، واعتبر ـ عن حق ـ أن الديمقراطية في تركيا انتصرت وهي
الفائز الحقيقي.
أيا ما كانت النتائج، وبدون أدنى شك فإن بطل المشهد الديمقراطي في
تركيا هو هذا الرجل، رجب طيب أردوغان، الذي رعاها على مدار ربع قرن تقريبا، وكان
أمينا معها، ووفى بعهده في احترامها وحمايتها وتعزيزها، ورسخ ميراثا للدولة
المدنية، الشعب فيها هو الحكم وهو السيد وليس العسكر والدبابة أو العمامة، وحقق
لبلاده مجدا سياسيا وعسكريا واقتصاديا واستراتيجيا، خلال عقدين فقط، يقترب من
المعجزة.