منذ نشأة الإعلام المقترن بالتكنولوجيا العصرية، وتوسع مجالاته ومؤسساته ومدارسه وفنونه التواصلية، أصبح لكل توجه دولي ولكل تيار فكري ولكل مؤسسة ومنشأة تتعامل مع البيئة الإعلامية سياساتها الخاصة ومرتكزاتها في الخطاب والتوجيه والتأثير والتغيير والتأطير، في سعي حثيث منها لتحقيق أعلى سقف ممكن من التواصل الفعال والمؤثر مع شرائح المجتمع المختلفة.
وما بين المدرسة الشرقية القديمة المتمثلة بالعقيدة الإعلامية التأثيرية الشيوعية، والمدرسة الرأسمالية الغربية الأمريكية قديماً، وما بين الواقع اليوم فرق شاسع، فقد نشأت مدارس إعلامية متعددة، وتوجهات باتت تمثل ظاهرة فعلية في شكلها وتنوعها وقدرتها على تحقيق التجديد والتأثير، لا سيما في أوروبا، التي حاولت في العقدين الأخيرين أن تضع لنفسها مكاناً تحت الشمس، وحاولت كل دولة فيها أن تصوغ رسالتها الإعلامية الذاتية ضمن المنظومة العامة.
أوروبا عموماً منفتحة على القضايا العالمية وتتيح متنفساً حقيقياً للتعبير عن الرأي والرأي الآخر - طبعاً مع الفارق بين دولة وأخرى - وهذا واضح في الصحف الرسمية الصادرة فيها، بينما نجد السياسة الإعلامية في الولايات المتحدة ثابتة في التأثير الضاغط وفق سياسات الضخ الإعلامي والتكرار والتوجيه المركز لتحقيق الغايات المقصودة .
ولكن هامش حرية التعبير الإعلامي في أمريكا مع ذلك يتيح لكل الأفكار أن تطرح،لا سيما إذا قمنا بعمل مقارنة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية كمثال، فمتاح لليهود وأعوانهم وأنصارهم أن يتحركوا بأريحية، ومتاح للفلسطينيين وأنصارهم من العرب والغربيين أن يكتبوا ويرسموا ويشاركوا في الحوارات وكل أشكال العمل الإعلامي، والسبق الحقيقي لمن بنى رؤيته وشكل قاعدة بياناته المعرفية وانطلق بوعي وبصيرة ليحقق أهدافه المنشودة.
أما في أوروبا، وإذا أردنا أن نحصر الحديث بالمثال الفلسطيني، فإن بعض الصحف الأوروبية الكبرى التي تصنف على أنها ليبرالية مثل صحيفة الغارديان، وصحيفة الاندبندنت - رغم سعة انتشارها ووضوح التوجه الرسمي البريطاني في دعم الرواية الإسرائيلية على حساب الحق الفلسطيني - تتضمن في كثير من الأوقات انتقادات لاذعة للقيادة والسياسيات الإسرائيلية والاستيطان وقتل الأطفال والاعتداء على الصحفيين ونحوها مما يهم الشارع العام الغربي، وهو الأمر الذي يتكرر في قنوات تلفزية ومحطات إذاعية أخرى في بريطانيا نفسها.
قد لا تجد ذلك واضحاً في القنوات الألمانية والفرنسية بشكل واضح، ولكنه بالفعل أمر واقع، فكل وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية تتيح لكل أصحاب الأيديولوجيات والأفكار والتوجهات الفكرية والمصلحية أن تطرح ما لديها،وهي تفتح أبوابها لمن يحسن طرق الأبواب، وقد تابعت بنفسي العديد من البرامج والتغطيات والتقارير الإعلامية التي تتناول الحدث بمصداقية وموضوعية ومهنية إعلامية، وهي أمور تدعم الحق الفلسطيني ولا تؤيد الأكاذيب والدعاية الإسرائيلية التي يجري ترويجها في الذهن الغربي باستمرار.
وعلى هذا المثال يمكننا القياس على شواهد وقضايا ومسائل متعددة، كلها تقع في نفس دائرة البحث والنقاش، فالفرق بين التوجهات الأمريكية والأوروبية في مجال الإعلام لا يعدوا كونها مساحات تتاح بهوامش مختلفة بين هذه الدولة أو تلك، ولكنها مساحات متاحة، ومهما تضاءل حجمها فإن لها تأثيرها وقدرتها على الخطاب للفرد الغربي سواء في أمريكا أو في أوروبا.
التحدي الحقيقي الآن يكمن في الجيل الجديد من الإعلاميين الذين يتقنون فن الإعلام ومداخله، ويعرفون حقيته وكنهه، فعليهم تقع مسؤولية صياغة التوجه الإعلامي الذي يناسب الإعلام الغربي لتحقيق اختراق فعلي في العقل الغربي والذهنية الأوروبية والأمريكية لصناعة التحولات في قضايا المنطقة انطلاقاً من جبهات مؤسساتية وإعلامية ضاغطة في قلب أوروبا وأمريكا، وهي التي تسمى في علم الاجتماع اليوم بجماعات المصالح والضغط أو اللوبيات الضاغطة والمؤثرة، والتي تعمل بحكمة وعقلانية وعلم وأرقام، لا بالارتجال والهوى والتشهي.
* مستشار إعلامي- شبكة تنمية الشرق الأوسط MDN