تعرض رئيس الحكومة يوسف الشاهد لانتقادات قاسية وعنيفة جدا من معارضيه داخل البرلمان وخارجه، وبالخصوص من أوساط الجبهة الشعبية. ولا يعود ذلك فقط إلى اتهامه بكونه جاء لينفذ توصيات وإملاءات البنك الدولي، وإنما لكونه أيضا قد نجح في استقطاب ما وصفه أحدهم ب " الساقطين " من اليسار الراديكالي الذين قبلوا أن يساعدوه على تنفيذ هذه "المهمة القذرة".
عندما شرع الشاهد في تشكيل حكومته، فكر جيدا في أن يخفف من حدة المعارضة اليسارية التي اختارت منذ قيام الثورة ألا تضع يدها في يد كل من تعتبره فاسدا أو "إسلاميا ظلاميا" أو مرتبطا بدوائر الرأسمالية العالمية والإمبريالية. وقد ترسخ هذا الخط بشكل عميق بعد اغتيال المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وعندما عجز يوسف الشاهد عن تغيير موقف الناطق الرسمي باسم الجبهة حمى الهمامي، تم نصحه بالبحث عن رفاق يتحركون خارج دائرة الأحزمة التنظيمية رغم استمرار ولاءاتهم الأيديولوجية. ولم يطل البحث طويلا حيث تم العثور عن ثلاثة من هذا الصنف.
أولهم شخص يساري قديم ابتعد عن المشهد المحلي منذ فترة طويلة، كان عضوا سابقا بالمكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل قبل أن يتم تعيينه مديرا لأنشطة العمال لشمال إفريقيا بالمكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية بالقاهرة، ومع ذلك بقي قريبا من الأوساط النقابية التي نشأ وتربى في أجوائها. وبناء عليه لم من باب الصدفة أن يختاره يوسف الشاهد وزيرا للشؤون الاجتماعية عساه أن يكون همزة وصل بينه وبين المركزية النقابية التي تمثل اليوم أحد مراكز القوة في البلاد نظرا لوزنها وتجربتها التاريخية.
أما الشخصية الثانية التي قبلت عرض الوزارة فهو الأمين العام لحزب المسار. وهذا الحزب هو وريث الحزب الشيوعي بعد أن غير اسمه وجلده. ورغم أن آخر تصريح أدلى به كان تأكيده بأنه لن يشارك في حكومة ائتلافية تكون حركة النهضة من بين أهم مكوناتها، إلا أنه فاجأ رفاقه قبل خصومه عندما رحب بأن يتولى حقيبة وزارة الزراعة التي تسمى في تونس "وزارة الفلاحة". ولقطع النظر عن الرجة التي حدثت داخل حزبه باعتباره أمينا عاما له، وهو ما جعل البعض يفكر في اتخاذ قرار بتجميده، إلا أنه تمكن من إقناع رفاقه بأن الوضع خطير في البلاد، وأن قبوله بالاشتراك في الحكومة لم يكن من موقع المصلحة الشخصية بقدر احتمال تحقيق مصلحة للحزب ولليسار في هذا الظرف الصعب، خاصة وأن الحزب خسر خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة جميع مقاعده في البرلمان. يضاف إلى ذلك أن الحزب سبق له وأن شارك في حكومة قادها بعد الثورة آخر وزير أول عينه الرئيس لسابق زين العابدين بن علي.
وتم الاختيار الأخير على عبيد البريقي الذي بدوره كان عضوا بالمكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل في آخر قيادة قبل حصول الثورة. وتأتي أهميه هذا النقابي في كونه أحد الكوادر الأساسية التي اشتركت مع شكري بلعيد في تأسيس فصيل " الوطنيين الديمقراطيين " الذي هو الآن الطرف المكون الثاني للجبهة الشعبية بعد "حزب العمال الشيوعي التونسي". وآخر إنجاز قام به البريكي لصالح رفاقه هو رئاسته لآخر مؤتمر عقدوه وانبثق عنه "حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، وقد سبق أن عرضت عليه في حكومة التكنوقراط وزارة التربية لكنه رفض ذلك، وكتب يومها تدوينة ورد فيها "أبديت، بعد التشاور مع عدد من الرفاق والأصدقاء، قبول المبدأ مع شرط أساسي هو ألا تحوي الحكومة ممثلين لحركة النهضة باعتبارهم، فضلا عن فشلهم الذريع في إدارة المرحلة السابقة، هم من حرضوا من خلال حملات التشويه والتهم الباطلة على اغتيال رفيق الدرب سيد الشهداء شكري بلعيد وهم المسؤولون السياسيون عن الاغتيال وهم من تستروا بالصمت مرة وبالمغالطة والتضليل أخرى عن خيوط الجريمة وخفاياها...لهم أقول، إن الشرف العظيم قد نالني اليوم حين رفعتم ضدي الفيتو وحين استجاب لكم رئيس الحكومة المكلف ) يقصد يومها مهدي جمعة ( وقيادة النداء، لان وجودي في حكومة أنتم طرف فيها خيانة لرفيق أسست معه حركة الوطد وحزب الوطد الموحد وخيانة لنقابيين أشداء شرسين...".
ماذا يعني هذا الانفتاح الذي أقدم عليه ثلاثة من العناصر اليسارية للعمل ضمن حكومة ائتلافية تشارك فيها حركة النهضة كطرف أساسي وفاعل؟
هذا يعني أن الأيديولوجيا لم تعد حاجزا للعمل بين الخصوم ضمن مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها تشكيل حكومة واحدة.
صحيح أن الجبهة الشعبية نددت بذلك، وانتقدت بعض رفاقها، لكن ذلك يكاد يصبح موقف معزولا، ومن غير المستبعد أن يتم التخلي عن شرط الامتناع عن العمل المشترك مع حركة النهضة خلال فترات القادمة. أما حركة النهضة -من جهتها- فقد تجاوزت هذا الأمر، وخطت خطوة إيجابية عندما لم تعترض على تعيين رئيس الحكومة هذه الشخصيات الثلاثة في مواقع هامة، بل قام رئيس الحركة راشد الغنوشي بالاتصال بهم، وتهنئتهم بمسؤوليتهم الجديدة، وبلغهم موافقة الحركة على هذه الخطوة التي أقدموا عليها. لاشك في أنها خطوة رمزية في انتظار استكمال المشوار في مسار لا يزال طويلا.