بعد أكثر من ثلاث سنوات على انقلاب الجنرالات في
مصر على الرئيس المدني المنتخب، ورغم أن نيران هذا الانقلاب طالت كل قوى ثورة يناير بلا استثناء مع فوارق في الدرجات إلا أن ذلك لم يكن كافيا لتجميع تلك القوى بإسلامييها وليبرالييها ويسارييها تحت مظلة واحدة.
ومع كل التقدير للجهود التي تبذلها مجموعة مخلصة من رموز وقيادات ثورة يناير لبناء مظلة واحدة لشركاء الثورة الحقيقيين إلا أن صعوبات نفسية لا تزال تعيق الوصول إلى هذا الهدف النبيل، فرواسب الاستقطاب الحاد الذي شق صفوف الثورة منذ استفتاء 19 مارس 2011 على التعديلات الدستورية، وما بعده من أحداث -كان لكل طرف رؤيته الخاصة للتعامل معها- لاتزال مغروسة في نفوس الكثيرين.
الصورة ليست قاتمة بالمطلق، إذ إن جهود دعاة الاصطفاف على مدى العامين الماضيين نجحت في كسر الكثير من الجدر والحواجز النفسية وإن لم تنهها تماما، حيث شهدت عدة حواضن مهجرية لرافضي الانقلاب العشرات من ورش العمل واللقاءات التي ضمت فرقاء كان مجرد التقائهم من قبل على طاولة واحدة أمرا مستحيلا، ونجحت تلك الورش واللقاءات في استعادة قدر معقول من الثقة بين بعض القوى وقدر أقل مع قوى أخرى، وبالنظر إلى نصف الكوب الممتلئ فإن ما تحقق يمثل خطوات معقولة على طريق الاصطفاف الثوري الشامل الذي هو الطريق الأسرع لدحر الانقلاب.
وحتى يمكن التقدم للأمام في هذه المعركة الصعبة مع قوى الثورة المضادة فإن واجب الوقت الآن بعد استرداد قدر معقول من الثقة المفقودة هو البدء في مشروعات مشتركة صغيرة تحقق حالات نجاح يمكن من خلالها بناء المزيد من الثقة وتحقيق المزيد من النجاحات الأكبر نسبيا، مع القناعة التامة أن المعركة مع هذا الانقلاب ستحسم بالنقاط وليس بالضربة القاضية وهذه قناعة التحالف الوطني لدعم الشرعية منذ تأسيسه قبل ثلاث سنوات.
لتكن البداية بالاتفاق على وقف التراشق الإعلامي بين من لا بزالون يغعلون ذلك بعد أن نجحت الجهود الماضية في الحد منه، ولتكن الخطوة التالية على طريق الهدف الأكبر هي المشاركة في أعمال مشتركة بعيدة عن نقاط الخلاف، مثل الحملة المطالبة بإغلاق سجن العقرب سيء السمعة والذي يضم سجناء من مختلف القوى الثورية، وحملة رفض قرض صندوق النقد الذي سيكتوي به الجمع، ومن الممكن أيضا الاتفاق على أمور رمزية غير مكلفة مثل تسويد أو تلوين صور غلاف صفحات الفيس بوك تضامنا مع السجناء أو رفضا للتنازل عن تيران وصنافير، أو ضياع حقوقنا المائية بسبب سد النهضة، فهذا العمل على ضآلته سيبعث برسائل كثيرة سواء لشباب الثورة أو لعموم الشعب أو حتى للسلطة الغاصبة مفادها أن هناك عملا مشتركا قابلا للتطور والتصعيد، ولنتذكر أن هذه الروح والأعمال المشتركة نجحت في حشد 15 إبريل (جمعة الأرض) التي شاركت فيها مختلف القوى الثورية دون أية شعارات حزبية أو فئوية، وكانت بمثابة عودة للروح الثورية.
لا بأس بعد ذلك من التحرك صوب تشكيل هيئة تنسيقية من ممثلي كيانات أو حتى مجرد رموز ثورية تكون بمثابة ضمير للثورة، وتطلق مبادرات للعمل المشترك ليتفاعل كل كيان أو قوة ثورية معها بطريقته منفردا، أو حتى عبر تنسيق ثنائي أو جمعي مع غيره إن أراد.
لا بأس أيضا أن تتقدم هذه الهيئة التنسيقية خطوة للأمام بصياغة وثيقة مبادئ تحدد المشتركات وتضع آليات للتعامل مع المسائل الخلافية، ومن الممكن أن تحصل هذه الوثيقة والفريق الذي يحملها على شرعية شعبية من خلال حملة توقيعات مليونية إلكترونية أو تقليدية أسوة بوثيقة المبادئ السبعة للجمعية الوطنية للتغيير قبيل ثورة يناير وأسوة بتوقيعات وتوكيلات الشعب للوفد المصري المطالب بالاستقلال عن بريطانيا برئاسة سعد زغلول عام 1918 والتي توجت بثورة 1919.
بعد ذلك تأتي الوثائق التفصيلية لعمل مشترك كامل لإسقاط حكم العسكر واستعادة الحكم المدني وفق خطوات مرسومة وهياكل واضحة وأدوار مرتبة وفترات محددة للمقاومة، ومن ثم للمرحلة الانتقالية عقب سقوط حكم العسكر وأخيرا الصورة التي نريدها لمصر المستقبل.
سيعتبر البعض هذا الكلام حالما في ظل تراجع الحالة الثورية في مصر حاليا، وفي ظل خلافات وانشقاقات تضرب صفوف قوى الثورة وفي القلب منها مكونها الأكبر جماعة الإخوان المسلمين، وهذا الاعتقاد صحيح، لكن الصحيح أيضا أن الثورات مبنية على أحلام، ولأن هذه الشقاقات هي نتيجة للركود والبطالة السياسية والثورية بالأساس فالجيش العاطل كثير المشاكل، والمياه الراكدة تنتج فطريات وطحالب تبعث روائح كريهة تنفر البشر.
وسيعتبر البعض هذا الكلام حالما في ظل حالة شعبية محبطة، تنظر بشك للثورات والتغييرات الجذرية، وتميل عادة للاستقرار ولو كان على حساب معيشتها وكرامتها، وحريتها، ولكن التاريخ القديم منه والحديث أيضا يقول إن عمليات التغيير الكبرى لم يقم بها الشعب مجتمعا ولا حتى غالبيته، بل يكفي طليعة منه من مختلف التيارات والاتجاهات والفئات كما كان الوضع في ثورة يناير، ويكفينا من بقية الشعب تحوله إلى حاضنة لهذه الطليعة المستعدة لدفع الضريبة قياما بفرض الكفاية نيابة عنه، والواقع يؤكد ان الشعب أو غالبيته حاليا مستعد للقيام بهذا الدور في ظل تدهور وانهيار مستمر للخدمات وقفزات جنونية للأسعار، وانتقاص متواصل من كرامته وحريته، ويقين جازم بعجز النظام عن تحقيق الحد الأدنى لمتطلبات حياته.
من المأمول أن وضع رؤية سياسية وخطة عملية لتطوير الحراك الثوري ضد الحكم العسكري كفيلة باستعادة اللحمة بين الكثير من الفرقاء والمتشاكسين وحشدهم خلف تلك الرؤية والخطة، ومع ذلك تبقى المسؤولية الأخلاقية عن تأخر النصر في رقاب من تسببوا أو شاركوا في تلك الخلافات والانشقاقات في وفت تحتاج فيه مصر وثورتها لجهدهم ووحدتهم.
هذا المشروع المقاوم ليس ممهورا بختم ضمان لنجاحه أوتوماتيكيا، فالنجاح مرهون بتوفر الإرادة الحقيقية لكل الأطراف الرافضة والمكتوية بحكم العسكر، وحال توفر هذه الإرادة فإنها ستحشد وتفجر الكثير من الطاقات الكامنة والمعطلة الكفيلة بإزاحة هذا الحكم الذي يتضاعف عجزه وفشله بوما بعد يوم، والذي لم يعد له من سند سوى شلل المنتفعين منه في الداخل والخارج، بينما يئن أغلب الشعب منه.
إن الاتفاق على بديل وطني لهذا الحكم سيضع المسمار الأخير في نعشه، وسيسرع بالخلاص منه بدلا من انتظار الوقت لسقوطه من تلقاء نفسه، وليمتلك أبناء يناير الشجاعة الكافية لصياغة هذا البديل مع مراعاة الإرادة الشعبية التي انقلب عليها العسكر واسقطوا استحقاقاتها، علما أن هناك العديد من الصيغ والاقتراحات المطروحة التي تلبي مطالب أنصار الشرعية وفي الوقت نفسه تلقى قبول الكثير من قوى ورموز الثورة.