كتاب عربي 21

هزال شعار "دولة لمواطنيها في فلسطين"

1300x600
فكرية فلسطينية أخذت تنتقد الفصائل الفلسطينية بقسوة بالغة، وتعتبر نفسها وهي تطرح مشروع الدولة الواحدة لكل مواطنيها قد اكتشفت البارود لحل المشكل الفلسطيني. وراحت تقدّمه باعتباره "المشروع النهضوي الإنساني التحرّري العصري" أو باعتباره "المشروع الأخلاقي الإنساني التحرّري" الذي يمكن أن يجبه الصهيونية بوصفها نظاما "كولونياليا استيطانيا". وقد رأى البعض أن اكتشافهم يعبّر عن "فكرة فلسطين الجديدة إلى العالم التي ترتكز على اعتمادها القِيَم الإنسانية التحررية" وعليها أن تجاهر بهدفها وهي "تفكيك النظام الكولونيالي الاستيطاني، واستبدال النظام الصهيوني بنظام يضمن الحرية والمساواة والديمقراطية للجميع". 

بعبارة أخرى المطلوب التقدّم بمشروع "نهضوي إنساني تحرّري عصري" من شأنه "أن يعيد النظر في فكرة الدولة القومية باعتبارها شكلاً وحيداً لتحقيق الحرية والعودة وتقرير المصير للشعب". وذلك "بالاستعاضة عنها بمفهوم "الدولة الوطنية" مع الاعتراف بحقوق المواطنة المكتسبة ليهود إسرائيل حصرياً في فلسطين وليس لكل يهود العالم. وذلك عند تخليهم عن عقيدتهم الصهيونية الاستعمارية العنصرية والقبول بالعيش المشترك في دولة ديمقراطية عمادها المواطنة التي تكفل للجميع حقوقاً (أصيلة ومكتسبة) متساوية في العيش الآمن الحر الكريم وتقرير المصير. ويضمن تساوي حق جميع أفراد المجتمع بالمشاركة في الحياة السياسية وفي إدارة الشأن العام". هنا يُراد إسقاط الهوية العربية عن الدولة وإسقاط الهوية الفلسطينية فتصبح "دولة لمواطنيها في فلسطين" بلا سمات أخرى. (لمزيد من الاطلاع راجع مقالة ماجد كيالي جريدة الحياة في 19 تموز/يوليو 2016).

بداية، هذا الطرح المتعلق بحلٍ لقضية فلسطين على أساس "دولة لمواطنيها" يظل تكراراً بليداً لمشروع الدولة الديمقراطية الفلسطينية العلمانية الذي طرحته حركة فتح في عام 1969 وتبنته م.ت.ف لاحقاً. الأمر الذي لا يسمح بأن يتصرف أصحابه كأنهم اكتشفوا النار، والأنكى إذا تصوّروا أنه سيحلّ قضية فلسطين ويأتون من خلاله بما لم يأتِ به الأوائل. 

على أن هذا التكرار البليد يهبط بمستواه عن مستوى الدولة الديمقراطية الفلسطينية بإسقاط الهوية الفلسطينية بعد أن كانت الهوية العربية قد أُسقطت ليصبح الاسم "دولة ديمقراطية لمواطنيها" في فلسطين والبعض قد يُسقِط "في فلسطين أيضاَ" ثم يهبط هذا التكرار من مستوى الدولة الديمقراطية الفلسطينية آنفة الذكر حين يُسقط أصحابه استراتيجية الكفاح المسلح طويل الأمد، ومن دون أن يتقدموا باستراتيجية تحقق إقامة "الدولة لمواطنيها"، بعد تفكيك النظام الكولونيالي الاستيطاني العنصري. أي كيف يريدون تفكيك هذا النظام؟ أو بأيّة استراتيجية وتكتيك بعد إسقاطهم استراتيجية الكفاح المسلح، أو المقاومة بكل أشكالها؟ أو كيف سيُقنعون "يهود إسرائيل" الذي سيكونون مواطنين في الدولة بالتخلي عن عقيدتهم الصهيونية؟ هنا عندنا: النظام.. الدولة.. الجيش.. أجهزة الأمن.. ميليشيات المستوطنين الجدد، وكيف سيفرض عليهم التفكيك أولاً، ثم عندنا "المستوطنون الكولونياليون" الذين يُراد إقناعهم بالتخلي عن عقيدتهم الصهيونية، ثم كيف سيقتنعون بإعادة البيوت التي يسكنون فيها لأصحابها، وكذلك الأراضي التي يزرعونها (هنا طامة كبرى لأن 94% من أرض فلسطين عام 1948 كانت ملكية فلسطينية)؟  

إذاً نحن أمام فكرة مستعارة بلا استراتيجية، وواقفة على رأسها، وضائعة في بحرٍ من الوهم، ولم تتعلم من سلبية الفكرة الأولى الأصلية، أو الأكثر أصالة. وهي أنها أخطأت حين قدمت تنازلاً مجانياً بالتبرّع سلفاً بمساواة "اليهود المستوطنين الاستعماريين العنصريين" بالمسلمين والمسيحيين العرب الفلسطينيين. فأنت هنا تعطي حقاً من دون أن تُقابَل من المعني باعتراف أنك مساوٍ له (يا للمهزلة) في الحق بفلسطين، فتنقله عملياً، ومنذ الآن من ظالم مغتصب لا حق له في فلسطين إلى صاحب حق. وهذا ما يكرّره أصحاب شعار دولة لمواطنيها. ولكن بتكرار أشدّ نكراً بعد كل التجربة التاريخية مع هذا الكيان ومستوطنيه القدامى والجدد واللاحقون. 

ما أسهل أن تتوجه بالنقد إلى كل التجارب الفلسطينية التي عرفها الصراع مع المشروع الصهيوني منذ 1918، وتتهمها بما شئت من التهم ابتداء من التقصير أو الفشل في منع قيام دولة الكيان الصهيوني، أو التقاط أخطاء من هنا وهناك واعتبارها السبب في النكبة الأولى 1948 والثانية 1967، وذلك ما دمت تُسقِط من حسابك موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية، وفي فلسطين، وأنت تقوّم تجربة مواجهة المشروع الصهيوني. 

فعلى سبيل المثال، إن قراءة موازين القوى العالمية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وقراءة مشروع تجزئة العرب إلى 22 جزءاً/ دولة مع السيطرة عليها عسكرياً وسياسياً والتحكم بأنظمتهم من خلال "الهيمنة الكولونيالية" ثم قراءة تحكم الانتداب البريطاني بالقوّة العسكرية لفرض الهجرة اليهودية الاستيطانية وتسليحها وتجريد الفلسطينيين من كل أسباب المقاومة، وبالقمع والقوّة. ثم عليك قراءة الجهة المقابلة في ميزان القوى وما تمتعت به الحركة الصهيونية من دعم عسكري وسياسي ومادي من قبل الدول الإمبريالية لا سيما بريطانيا وفرنسا وأمريكا ثم انضمام الاتحاد السوفياتي للموافقة على قرار التقسيم (إقامة دولة للمستوطنين الصهاينة) ودعم قواتها المسلحة بالسلاح. 

إذا كان هذا حال ميزان القوى فهل يمكن أن يُعزى قيام دولة الكيان الصهيوني أو عدم إحباط المشروع الصهيوني لأسباب ذاتية تتعلق بالحركة الوطنية الفلسطينية، أو الثوابت الفلسطينية أو السياسات الفلسطينية مهما أمكن أن يسجل من أخطاء أو نواقص أو ما شئت من سلبيات؟

وعليه قس من حيث صحة منهج التقويم أو الخلل بالنسبة إلى من يتعرضون اليوم لنقد التجارب الفلسطينية اللاحقة فكل من يُسقِط من حسابه موازين القوى والظروف والمناخات والأوضاع السائدة، وهو يقوّم أيّة تجربة، أو وهو يبحث عن إجابات لما تواجهه القضية من مشكلات وتحديّات. ثم يسبح في عالم الأفكار أو البرامج سيجد نفسه مكتشفاً للبارود وهو يسبح في عالم الأفكار والتجريدات الفكرية والبرامج والمشاريع من دون أن يربط كل نقد وكل فكر بحساب دقيق لموازين القوى، وما يمكن إنجازه في ظلها في كل مرحلة وحالة. 

ففي أغلب المراحل التي مرّت بها القضية الفلسطينية كانت موازين القوى غير مواتية للقضاء على المشروع الصهيوني المدعوم عالمياً كما هو مدعوم بالسيطرة الخارجية على الأوضاع العربية وإمكانات الحركة الفلسطينية. ولهذا ما كان يُنجَز كان يتمثل بالصمود وأحياناً بعرقلة المشروع الصهيوني والحدّ من تمدّده وأطواراً في استنزافه وعزله. ولكن لم يكن هنالك من مرحلة كان يمكن فيها تحرير فلسطين منه أو إحباطه من حيث أتى. ومن ثم لا يجوز أن تُتَّفه حالات الصمود والمقاومة والممانعة تحت معيار الانتصار الكامل، وإلاّ فالفشل الكامل. ثم الهروب باكتشاف فكرة "جديدة" لم تجرَّب بعد، أو مشروع بلغة أخرى، فيُظَن أن صاحبه اكتشف البارود، وبأنه سيأتي بما لم يأتِ به الأوائل. ولا سيما حين يتضمن ذلك الهروب تخلياً عن مواقع المقاومة والمواجهة، إلى مواقع تقديم التنازلات المباشرة، وغير المباشرة، كما يفعل الآن أصحاب نظرية حلّ القضية الفلسطينية عن طريق دولة لكل مواطنيها وإعطاء حق المواطنة لمن اغتصبوا فلسطين. وهجّروا ثلثي أهلها واستوطنوها واحتلوا البيوت والمدن والقرى والأرض. والأنكى ومتى؟ أي منذ الآن يعطون هذا الحق في الوقت الذي يتطاول فيه المستوطنون ويسلبون ما وصلت إليه أيديهم. 

ثمة نقطتان تحتاجان إلى وقفة مع الصراع المصاحِب لحل القضية الفلسطينية على أساس دولة لمواطنيها. 

النقطة الأولى: ناجمة عن فشل مشروع حلّ الدولتين وعدم واقعية تنفيذه من أجل تسويغ الانتقال لتبني مشروع الدولة لمواطنيها. والحجة أن مشروع حلّ الدولتين "أخرج عملياً الأراضي الفلسطينية التي أنشئ فوقها الكيان الصهيوني من دائرة التفاوض الضروري لإتمام المقايضة بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967". 

فإذا كان من الصحيح نقد مشروع حلّ الدولتين باعتباره تصفوياً، وإذا كان من الصحيح عدم التخلي عن الأراضي الفلسطينية عام 1948 إلاّ أن جماعة مشروع الدولة لمواطنيها يطالبون بالمفاوضات الشاملة لحلٍّ كلي وهو "تفكيك النظام الكولونيالي وإقامة دولة لكل المواطنين". وبهذا يُسقِطون بصورة متضمنة الانتفاضة الحالية التي تستهدف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية وبلا قيدٍ أو شرط، تحت حجة بحث القضية ككل. وَتَأمَّل، المطالبة بالمفاوضة الشاملة؟ 

صحيح أن قضية فلسطين هي قضية كل فلسطين من النهر إلى البحر وتحريرها بالكامل وعودة كل اللاجئين إليها. وصحيح أن اعتبار كل ما حدث من استيطان صهيوني عليها بما فيه إقامة دولة الكيان الصهيوني غير شرعي وباطل حتى من وجهة نظر القانون الدولي. ولكن هذه عملية طويلة الأمد وهي لا تتعارض مع خوض معركة الانتفاضة الحالية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة باعتبارهما هدفين يستطيعان توحيد كل الشعب الفلسطيني وكل الفصائل الفلسطينية وتسمح موازين القوى الراهنة بتحقيقهما. وذلك إذا ما تطوّرت الانتفاضة إلى العصيان الشعبي الشامل وأصرّت على دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وبلا قيدٍ أو شرط. وبعد ذلك لكل حادث حديث. ولنختلف حول ماذا سنفعل بالأراضي المحرّرة في الضفة والقدس وقطاع غزة كما حول القضية ككل؟ وذلك ليبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه لتحرير كل فلسطين. 

من هنا على دعاة مشروع الدولة لمواطنيها ألاّ يتخذوا من الحديث عن القضية ككل ذريعة لبقاء الاحتلال واستشراء الاستيطان فيما من الممكن إنجاز نصر جزئي مهم جداً يُسهم إذا ما أُنجز في فتح ملف تحرير كل فلسطين وليس العكس. بل يجب أن يتجّه بهذا الاتجاه. ثم لم يقولوا لنا كيف سيقنعون قادة الكيان الصهيوني للتفاوض حول كل فلسطين؟ أوَلسنا هنا أمام بيع أوهام إلى جانب الخلل المبدئي؟

النقطة الثانية: الهجوم على فصائل المقاومة الفلسطينية بالجملة والمفرق واعتبارها منتهية الصلاحية بسبب التقاط سلبية هنا وسلبية هناك، وفي ظروف تحتم عليها أن تلعب دوراً حاسماً في الانخراط في الانتفاضة وتحقيق الوحدة في ظلها، يصبّ، بدوره، في حرمان الانتفاضة ومبادرات شبابها وشاباتها من الدعم في التحوّل إلى العصيان الشعبي الشامل لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة باتجاه تهيئة أوضاع جديدة لتحرير كل فلسطين.