يقفز إلى الذهن مباشرة دون الحاجة إلى توضيح ما تسمى بمؤسسة القضاء المصري فور سماع كلمة الشامخ؛ هذا يشير إلى مدى تأثير الكذب المتواصل على العقول جميعها؛ فمنذ أن عرفنا الدنيا وما يسمى القضاء المصري يوصف بهذا الوصف دون دليل واحد أو حتى قرينة؛ ولكنه أصبح هكذا في عقول الكثيرين؛ فكثرة الكذب تطغى أحيانا على الحق.
ودلائل فساد ما تسمى بمنظومة القضاء في مصر أكثر من أن تحصى؛ بل إن المعنى الأكثر اتساقا مع الواقع أن فساد تلك المؤسسة يصعب إخفاؤه أو حتى تخفيف حدته، وسنحاول المرور سريعا على بعض محطات الخيانات الهائلة لما تسمى مؤسسة القضاء للشعب المصري وهي قديمة قدم تأسيسها بعد الاحتلال البريطاني لمصر. وقبل الدخول في جدل لا طائل منه أحدد بعض المفاهيم التي تفصل بين العدل والقضاء.
فالعدل قيمة إنسانية والمؤسسات هي وسيلة المجتمع لترسيخ القيم ومن أهم تلك القيم العدل؛ ولكن الحقيقة أن وجود التشريع في يد السلطة ومع غياب كامل للمجتمع عن السلطة وإدارتها؛ جعل القانون هو أحد أدوات السلطة لتحقيق أهدافها المعادية للمجتمع، وبالتالي أصبح القانون ومن يديره مما تسمى بمؤسسات القضاء هو وسائل مساعدة للسلطة لقهر المجتمع. وعلى ذلك فالهجوم الكاسح على المؤسسات الفاسدة المعادية للقيم هو أعلى نقاط الانتصار للقيم والمفاهيم وهو أيضا الهدف الأكبر لإعادة تشكيل الوعي المجتمعي، فالعدل أساس الملك ولكن ليست المؤسسات التي تدير منظومة الظلم وتدعي بكل صفاقة أنها مؤسسات العدالة.
هذه الصورة البائسة لمؤسسة القضاء هي صورة مؤسسة القضاء في مصر منذ نشأتها بشكلها الحديث؛ فلم نعرفها أبدا عادلة وخاصة في القضايا التي لها علاقة بنمط السلطة فهي تصبح شديدة الشراسة دفاعا عمن يحميها، وحتي القضايا الأخرى التي ليس لها علاقة بالسلطة تأخذ عشرات الأعوام فهي عدالة بطيئة بطعم الموت والظلم كأنها صنعت لتعذيب المصريين.
بدأت نواة النظام القضائي المصري في عهد محمد علي وبدأ تحييد النظام القضائي الموجود بالمجتمع لصالح المحاكم الموجودة في النموذج الغربي واستمر "التطور" إلى أن احتل الانجليز مصر وقاموا بتعميم المحاكم الأهلية والمختلطة الموافقة لنموذج السلطة الغربي وتهميش كامل للمحاكم الشرعية والعرفية أحد أهم ملامح نموذج السلطة المغاير. هكذا بدأت المنظومة القضائية في مصر؛ بدأت على يد المحتل والذي أراد بها ليس فقط تثبيت سلطته في البلاد ولكن أراد بها تدمير النموذج القديم ، وقد أكد "القضاة" ولاءهم الكامل في كل موقف مر عليهم وفي أي قضية تمس سلطة كبرائهم الذين علموهم الخيانة.
المشهد الأول في 1906 وحادثة دنشواي عندما قام القضاة المصريين بطرس غالي الكبير وأحمد زغلول أخو سعد زغلول والنيابة المصرية بممثلها إبراهيم الهلباوي الذي أشاد بالاحتلال الإنجليزي لمصر، بالنظر في القضية، وأُعْدِم أربعة مع أحكام بالسجن والجلد لآخرين. وقد حاول الهلباوي الدفاع بعد ذلك عن حبيب المصريين إبراهيم الورداني الذي اغتال بطرس غالي ليكفر عن جريمته الكبرى.
إبراهيم الورداني الذي غنى له الشعب المصري لما فعله مع بطرس غالي بعد أن ترأس محكمة دنشواي وكان يريد تمرير مشروع بمد امتياز قناة السويس. وأُعْدِم إبراهيم الورداني بقضاة إنجليز ومصريين ليضيفوا إلى عارهم عارا جديدا على دنشواي.
ثم يظهر المشهد الثاني من أحمد الخزندار، وبين المشهدين عشرات الأحكام على المناضلين ضد الاحتلال الإنجليزي وعشرات العمال في مصانعهم، أحمد الخزندار الذي حكم على من قتل سبعة أطفال بعد أن مارس الشذوذ معهم بسبع سنوات سجن وحكم على المناضلين ضد الإنجليز بالأشغال المؤبدة، أحمد الخزندار الذي قال لمحامي الدفاع عن المتهمين بمقاومة الإنجليز نصا "الذي تقوله يا أستاذ كلام فارغ؟ هؤلاء حلفاء موجودون هنا للدفاع عنا بموجب معاهدة الشرف والاستقلال" ثم أضاف ليضفي بريقا من لمحات من العدالة على نفسه تلك الجملة الشهيرة التي يرددها كل الفسدة عن أن الأمور سوف تصبح فوضى إذا تركناها هكذا.
المشهد الثالث هو الحكم علي سليمان خاطر الجندي المصري بالأشغال الشاقة ثم الصمت عند قتله في محبسه، و عشرات المشاهد الأخرى مما عرفناه ومما نعيشه منذ خمس سنوات بدءا من تبرئة كل المتهمين بقتل الثوار وقضايا بيع الغاز للكيان الصهيوني ومئات الآلاف من المعتقلين والمطاردين وغيرها الكثير من مئات الكوارث التي حلت بمصر بسبب هؤلاء القوم .
كيف لأحد أن يدعي ولو زورا أنها مؤسسة بالأساس كونا عن أنها مؤسسة العدالة، لقد كانت وما تزال خنجرا في قلب مصر كغيرها من المؤسسات التي شربت من كأس الاحتلال وأصبحت رفيقته الهائمة به والتي لا تقبل إلا أن تكون مثله.
لقد أصبحت بجانب أختها الكبرى ومعلمتها ما تسمى بالمؤسسة العسكرية عبئا ثقيلا على مصر بل وعلى كل المنطقة التي تريد التحرر؛ صحيح هي لا تمتلك القوة الخشنة التي يمتلكها لعسكر، ولكنها تمتلك القوة الناعمة التي استخدمها العسكر حتي مهد الأرض لدباباته، إن ما تسمى مؤسسة القضاء لا تقل إجراما عن مؤسسة العسكر وما يحدث الأن من تمنع من القضاء في موضوع الجزيرتين هو عارض لن يطول وستعود المياه إلى مجاريها فكلا المؤسستين يتمتعان بنفس صفات الخيانة الدائمة للشعب المصري.