مقالات مختارة

ترويض العقل الثائر

1300x600
الترويض هو وسيلة  إخضاع الكائنات وتهيئتها لعمل خاص وفي العلوم الاجتماعية هي  ضبط السُّلوك عن طريق الثواب والعقاب؛ إذا هي رغبة من يمتلك بيده شيء ما -قد تكون القوة المادية أو غيرها- للتعامل مع قطاعات واسعة، ففي حالة الجمهور الذي لا يمتلك قدرا مناسبا من القدرة على التفكير المنطقي تستخدم القوة الهائلة لغياب العقل والإخضاع لتلك الكتل الغير عاقلة في فعل ما, سواء كان هذا الفعل أخلاقيا أم لا. ولهذا تحاول السلطة الفاسدة الحفاظ على حجم ضخم من هذه الجماهير التي لا تمتلك أي قدرة منطقية وتُفضِّل أن تحتفظ بها هكذا.

ويشير جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير إلى أن الجماهير تشبه في تصرفاتها القطيع، وبالتالي يسهل السيطرة عليها بمجرد ظهور قائد أو زعيم ما؛ فيقول في صفحة 127"

"ما أن يتجمع عدد ما من الكائنات الحية سواء أكان الأمر يتعلق بقطيع من الحيوانات أو بجمهور من البشر، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سلطة زعيم ما ، أي محرك للجماهير أو قائد". هذا توصيف لوبون لحالة السيطرة على الجماهير المندفعة التي شبهها بالقطيع.

ربما كان يريد لوبون وصف غالبية القوى الجماهيرية الموجودة والمنتجة من الإقطاع أو البرجوازية الفاسدة ؛ إلا أنه عاد ليؤكد أن هذه القاعدة تنطبق على الجميع ومهما كان المستوى الفكري أو الثقافي ولكنها كما أظن  قد تحتاج إلى عمل أكثر حنكة وليس بهذه البساطة وخاصة مع عدم وجودها في الشارع.

فالقائد الذي يظهر في وسط الأحداث ويحرك الجماهير المندفعة كالسيدة التي قالت إلى الباستيل فتحولت الاحتجاجات العنيفة إلى ثورة عارمة، وبين القائد الذي يُصنع بين الجماهير وهي لا زالت لم تتحرك بعد وهذا ما يحتاج إلى قدر من المهارة ليس ضروريا في حالة السيدة صاحبة نداء إلى الباستيل. ففي الحالة الأولى – الفوضى والفوران الجماهيري – يكون القائد الذي يُدْفع به أو يفرض نفسه هو صاحب الكلمة، أما في الحالة الثانية فتكون الجماهير هي صاحبة الكلمة حتي تبدأ في التحرك أو ربما كي تمتنع عن التحرك؛ فأحيانا يصنع القائد كي يمنع الجماهير من التحرك.

عندما تكون الجماهير مندفعة بفعل ثوري حقيقي كان يجب إنتاج زعامة للثورة، فقد استطاعت الثورة المضادة عقب تهييج الجماهير خلال فترة ليست بالقصيرة قبل انقلاب يوليو صناعة زعيم لها بل استطاعت منذ اللحظة الأولى لإقحام "الجيش" كشريك في الثورة، أما زعيم الانقلاب فهو في الحقيقة لم ولن يكون مؤهلا للزعامة ولكنه مؤهل تماما ليصل بالثورة المضادة إلى أقصى ما يريده محركوها.

من الأدوات التي استخدمتها الثورة المضادة منذ اليوم الأول هو ترويض العقل الثوري؛ فعندما شعر النظام بإمكانية فقدان السيطرة قرر أن يرفع راية الثورة مع الثوار؛ فمن السهل أن يصدقك الكثير عندما تكون واحدا منهم؛ فعندما يقول النظام الملتحف بعباءة الثورة أن الثورة الحقيقية هي الثورة بلا قائد تصدق الجموع الثائرة ذلك وعندما يقول أن الجيش والشعب يد واحدة يعتقد الثوار أنهم يصدقون ذلك والحقيقة التي يعلمونها قطعا أن الثورة ليست كذلك.

فقط ادخل في موقع القيادة وقل ما تشاء وستجد الجماهير تخالف قناعاتها وتتحرك وراءك حتى لو متناقضا مع الثوابت. ولكن دائما تبقى مجموعات من المختلفين المتمردين – والجماهير الغفيرة أيضا - هؤلاء يحتاجون لشكل آخر  

الآن بعد المياه الكثيرة التي جرت والدماء أيضا ومع تصلب الوضع المأسوي في مصر على حالة شديدة التوتر تبدأ محاولة جديدة لترويض العقل الثوري مرة أخري؛ ربما بنفس الشكل؛ فمع عدم القدرة على تغيير قناعات قطاع واسع من الثوار وخاصة ما يتعلق بضرورة التغيير الجذري الشامل والحاسم وبضرورة الاحتفاظ بإرادة الشعب التي لم يرها منذ مئات السنين المتمثلة في المناضل د محمد مرسي تبدأ مرحلة جديدة من الترويض بنموذج مماثل لما فعل "الجيش" في بداية أحداث الثورة؛ فقط كن جزءا من الثورة وابدأ بمقدمات صحيحة واستخرج منها ما تريد فكما تحول الجيش من عدو الثورة إلى شريكا لها واستطاع استخدام الثورة للوصول إلى الثورة المضادة يحاول مروضو العقل الثوري الجدد استخدام مصطلح الثورة والشرعية للوصول إلى تجاوز الثورة والشرعية معا بحجة الحفاظ عليها.

هذا المنطق الجماهيري "اللوبوني" الذي يؤكد أن النخب والساسة يدركون ذلك المنطق الجماهيري جيدا ويدركون أن الجماهير يمكن أن تفقد القدرة على الربط بين المقدمات والنتائج، لذا يحاول من يرى أن الثورة قد انتهت و أنه يجب على النخب والساسة أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه، وبالتالي عليهم استخدام المنطق اللوبوني الجماهيري لتحويل الجماهير إلى تجاوز الثورة والشرعية معا ولكن باستخدام الثورة والشرعية؛ ومستخدمين ما تلجأ النفس البشرية له في حالات الضعف بالتحرك إلى المساحة المتاحة، ولكن لوجود الجماهير الثائرة يتحتم تجاوز المفاهيم ولكن مع الحفاظ على عناوينها، وهذا التشوه يحدث إما بوعي أو بدون.

تبقى كتلة المتمردين أو هكذا يحب الكثير وصفهم، ولكنهم سيكونون وحدهم إذا نجح مروضو العقل الثوري في مسعاهم، وهم في الغالب شديدو التمسك بأفكار قاطعة وثورية يرى مروضو العقل الثوري أنها ليست عملية، وتناسوا أن كافة حركات التحرر الكبرى بدأت هكذا ونجحت عندما أصرت أن تكون هكذا.

إن عزل تلك الكتلة المتمردة وخفوت صوتها مرتبط بانفصال الجماهير عنها، وجماهير الثورة الآن  بعيدة بشكل كبير عن جماهير لوبون مما يقربها إلى تلك الكتلة و يُصعِّب في الوقت ذاته من محاولات مروضي العقول؛ إلا أن الإلحاح الشديد والتكرار المتتابع وزرع الإحباط الممنهج الحالي ربما يحرك البعض أو الكثير بكامل وعيهم وإدراكهم للحقائق إلى الاستسلام للواقع، فما يُروَّج الآن من أن المقاومة أصبحت لصالح العدو والصمود أصبح منهك وبلا جدوى ونحن فشلنا والعسكر ليسوا بالضرورة خونة ومؤسسات الدولة حصننا الأخير، فيجد الجميع نفسه في حصار خانق ويكون المهرب الوحيد هو ما يطرحه مروضو العقول.

بعد سنوات طويلة سنحكي لأولادنا وأحفادنا عن تلك الأيام؛ فإما أن نذكرها ونحن مرفوعو الرأس وبعيون لامعة من الفخر مهما كان وضعنا منتصرين كنا أم مشردين، وسنذكر أسماء الشهداء والمناضلين في أذهاننا وكتاباتنا أو على لافتات أسماء الشوارع والميادين في طول مصر وعرضها، وإما أن نذكر تلك الأيام ونحن نحاول ليَّ الحقائق حفاظا على كرامتنا التي نحاول إيجاد شيء منها لنستطيع الوقوف على قدمينا أمامهم. و بالتأكيد للجميع حق الاختيار.      
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع