بحكم أنني من بلد ينتج الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية للاستهلاك المحلي بكميات تجارية، وأفراد شعبه جميعا من أصحاب النظريات، في علوم السياسة والبيطرة والبصريات، فقد ساعدني ذلك في أن أكون ثورجيا، عميق الفهم في شؤون الحكم ولكن فقط نظريا، (صار جميع أبناء دفعتي وزراء سابقين وحاليين، بينما رأت الحكومات المتعاقبة أنني من "أبناء الذين")، ولكن وبما أنني فاعل خير، فإنني أبذل معارفي لخدمة الغير، من شعوب وأفراد، ليحققوا المنشود والمراد.
وعندي بالتالي فكرة عامة عن كيفية إنتاج وإخراج الثورات الشعبية، التي تسميها الحكومات العربية حركات "شغبية"، ليس بمعنى أنني قادر على إشعال الثورات، بل بمعنى أنني قارئ لما تتخذه من مسارات، فإلى السيناريو، غير المنقول من غوغل أو ياهوو: يخرج بضعة مئات في مظاهرات، فتنهال عليهم قنابل الغاز والهراوات، فيرتفع عدد المحتجين إلى آلاف قليلة، تصل إلى نقطة التجمع منهكة كليلة، فينهال عليهم الرصاص، وتتوعدهم الحكومة بالمزيد من القصاص، فتزداد المظاهرات عنفوانا، وتزداد عصابات الأمن هيجانا، وتتبرأ الحكومة من أي عمل دموي أو مشين، وتنسب العنف إلى المخربين والمندسين.
وبعد أن يتجاوز عدد القتلى المائة، تشعر الحكومة باختناق في الرئة، فيخرج صاحب الفخامة الرئيس، ويلقي خطابه التعيس: "الوطن يتعرض لمؤامرة، ستؤدي بالبلاد إلى "الآخرة"، والأعداء يتربصون بنا، ويحسدونكم على ما أنتم فيه من نغنغة و"هَنَا"، طلباتكم على العين والراس، وقررنا منح كل مريض قرص فاليوم، ولكل طالب كراس، وسنخفض سعر الملح والشاي، وسنكفل لكم جرعة من حرية الرأي، ونقيم لكل شهيد منكم ضريحا، وأوامري في هذا الصدد واضحة صريحة، بس بلاش تهريج وشغب، كي لا تعطوا الفأر الذي في عِبي فرصة أن يلعب".
والشعب يعرف أن ذلك في المشمش، ويخرج للساحات بثبات ليطيح بالجالس على العرش، وتختفي الشعارات المطالبة بالإصلاح، ويرتفع نداء حي على الكفاح، فتمتلئ الشوارع بالمصفحات والمدرعات، التي ظلت مركونة تشرب الشيشة وتخزن القات، أسلحة دفعت فيها الشعوب الشيء الفلاني، وقيل إنها لمحاربة الصهاينة والإمبريالي الأمريكاني، جيوش عقيدتها القتالية غير المعلنة أن النصر خرافة، تمارس تقتيل المواطنين العشوائي بلا رحمة أو رأفة، وصدور مزخرفة بالنياشين، وكل نيشان جاء نظير دماء العشرات من المواطنين، لم ينل ضابط رتبة أعلى من محاربة عدو، بل بالتنكيل بمواطنيه بالضرب والسحل وأحيانا "تفووو".
وعندما يدرك الرئيس المزمن، أن الحكم ليس فهلوة وطن وزن، ويقف أمام المايكروفون، كما شخصية في فيلم كرتون، ويعلن أنه "زهج" وقرف من الحكم، يدرك الشعب بدوره أن مرسي ابن المعلم الزناتي انهزم، أما عندما تنظم الحكومة مظاهرات تأييد "عفوية"، فتأكد أن حالتها صارت مزرية، وأنها تعد طبخة دون تنظيف الكرش والمصارين، يسبب تعاطيها حساسية لا يجدي معها الأنتي هستامين، ثم تصل الأمور إلى طرد مراسلي (بي بي سي) و(الجزيرة) و(سي إن إن)، فتسقط الحكومة قبل أن تنجح في العد من "ون" إلى "تن".
ومن بلد إلى آخر يشهد السيناريو تغييرات طفيفة، تتفاوت بين العنف الأهوج والوعود السخيفة، فقعيد ليبيا الجزافي مثلا، ازداد جنونا وخبلا، ولأول مرة في التاريخ، سمعنا بقمع مظاهرات بالراجمات والصواريخ، وفي اليمن قالوا لعلي صالح ارحل، فيلجأ إلى تجربة جماعة نحسي مبارك في غزوة الجمل، ولكن وبعد إعلان العصيان المدني، فضّل العمالة لحوثيين، وصب جام راجماتهم على عدنِ، وفي سوريا يقتل في يوم واحد أكثر من مائة شخص، لأنهم ناكرو الجميل.. إخص، عاشوا في نعيم قانون الطوارئ لنصف قرن، ولكن اتضح أنهم في غباء وحيد القرن، يخرجون مندفعين إلى الشوارع، رافضين فعل الماضي ومطالبين بالمضارع، أي راهن الحال والمستقبل، وهو ما لا يطالب به إلا عبيط وأهبل، كيف يتمرد عاقل على حكم بني أمية، ما لم يكن مستحقا لمحو الأمية؟
عام 2011 بأكمله كان ربيع العرب، حيث بدؤوا التداوي من العجز والجرب، نعم هناك انتكاسات هنا وهناك، ولكن لابد لكل ثورة من تعثر وارتباك، وسنظل نردد: لقد هرمنا من أجل لحظة تاريخية، للتخلص من عصبة العرْبجية، الذين يعتبروننا حمير كارو، وهم السادة من كيب تاون إلى كايرو.
كراسي الحكم أصيبت بالبواسير، بعد أن طارت منها المفاصل والمسامير، فلنعالج تلك الكراسي، لتلقى سفن الثورات الظافرة المراسي، فيجلس عليها من قلوبهم على الوطن، وليس من ينتزعون اللقمة من أفواهنا ويخزنوها في ثلاجات سويسرا ولندن.