من معاني السبح، العوم، ومنه السباحة في النهر أو البحر بعيدا عن الأرض، والجري، ومنه الذهاب بعيدا في الأرض، فسبح الفرس جريه، وفرس سبوح يسبح بيديه في سيره، والسوابح الخيل، والنجوم تسبح في الفلك سبحا، ومنه قوله تعالى: "وكلّ في فلك يسبحون"، والسبح الفراغ، ومنه قوله تعالى: "إنّ لك في النهار سبحا طويلا"، وقيل في معنى "والسابحات سبحا" السفن، وقيل الملائكة تسبح بين السماء والأرض، والحاصل في ذلك كله، تضمنه معنى الحركة والبعد، ولعل التسبيح بمعنى التنزيه، وحتى التعجب، قد جاء من هنا، إذ إنه يتضمن معنى البعد أيضا.
فجماع معنى "سبحان" كما يقول النضر بن شميل بُعْدُه، تبارك وتعالى، عن أن يكون له مِثل أو شريك أو ندّ أو ضدّ، ويمكن أن يضاف إلى ذلك، بعده عن كل نقيصة أو عيب، قال سيبويه: زعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك براءة الله، أي أبرئ الله من السوء براءة، وهذا يعني أن الله تعالى إذا افتتح السورة بهذه الكلمة التي تتضمن معنى البعد والحركة، بما يناسب سباحة النبيّ، صلى الله عليه وسلم، بعيدا في الأرض، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم بعيدا عن الأرض، من المسجد الأقصى إلى الأفق الأعلى، فإنه ينزّه نفسه عن عيب ما، وينبغي أن يكون هذا العيب متعلقا بما يمكن أن يقع للناس من ظنّ تجاه القصد من هذه الرحلة، رحلة الإسراء.
وقد فَصَل الله تعالى بين شطري الرحلة، وجعلهما في سورتين منفصلتين، فذكر الإسراء في سورة الإسراء، والمعراج في سورة النجم، وهو بذلك يؤكّد على المعاني الخاصّة بكل شطر، بما تتضمّنه من وصل وفصل، فإنّ أعظم التسرية عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بالصعود به إلى حيث بلغ من القرب في معراجه إلى الله، وأبلغ التشريف هو هذا القرب، وأشدّ التثبيت لفؤاده بتلك الآيات الكبرى التي رآها في معراجه، ولولا أن الرحلة إلى المسجد الأقصى مقصودة لذاتها لعرج به إلى السماء دون المرور بالمسجد الأقصى، فتنزّه الرب، جلّ وعلا، عن أن يكون هذا الشطر من الرحلة خلا من الحكمة البالغة، ومن ثمّ استقل بهذا الشطر بسورة خاصة به، بيّنت أنه قد رأى فيها من آيات الله، وهي غير الآيات الكبرى التي رآها في المعراج.
وثبت أنّ النبي أَمَّ الأنبياء في هذه الرحلة، واختلفوا إن كان ذلك في بيت المقدس قبل المعراج أم بعده، واختلفوا اختلافا أقلّ شأنا إن كان ذلك في بيت المقدس أم في السماء، والمشهور الغالب أنه كان في بيت المقدس، مع احتمال تعدد الحدث، وبهذا يرتبط بيت المقدس بمبدأ الرسالة الخاتمة، أي بالمسجد الحرام، ويرتبط بموكب النبوّات والرسل، منذ هبوط آدم إلى بعثة محمد، بل ويرتبط بالأفق الأعلى، فقد رُفِعت سدرة المنتهى للنبي، "فإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأمّا الظاهران: النيل والفرات، وأمّا الباطنان فنهران في الجنّة"، وبذلك يكتمل الاتصال الوثيق ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى والسماء، ويتبين أن لهذه المنطقة، ما بين النيل والفرات، وفي القلب منها بيت المقدس، دورا خاصّا، في مسيرة البشرية، كما أن للمسجد الحرام الذي كان مفتتح الرسالة الخاتمة دوره الخاص.
والتدبير لمكانة هذه الأرض قديم في الأزل، وكأن كل هذا الدفق البشري، منذ أبي البشرية الثاني نوح، لأجل الوصول إلى لحظة فاعلية هذه الأرض في خاتمة الوجود البشري الدنيوي، ولعل في إحكام آيات سورة الإسراء ما يشير إلى سباحة هذا القدر في التاريخ، منذ آلاف السنين، إذ ما إن انتهت الآية الأولى التي تذكر رحلة الإسراء، حتى بدأت الآية الثانية بذكر الكتاب الذي أوتيه موسى هدى لبني إسرائيل وما تضمّنه من وصية، ثم ذكرت الآية الثالثة ذريّة الذين حملوا مع نوح، ثم بدأت الآية الرابعة في تفصيل حكاية الإفسادين والوعدين لبني إسرائيل، وإذا كان الواقع الماضي لم يُتح للمفسرين القدامى أن يتصوروا علاقة بيت المقدس بالوعدين، ولاسيما الوعد الثاني، فإن واقع اليوم جعل هذه العلاقة أكثر وجاهة، وكشف عن إحكام الآيات، وتسلسلها اللافت، واختصاص السورة ببني إسرائيل، وما تضمّنته الرحلة من ربط ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى والسماء.
ويتبين أيضا حين عرض واقع اليوم، على إحكام الآيات، ذلك الإحكام الربّاني لحركة التاريخ، والتدبير الدقيق لأقدار البشر فيها، وهو ما يثير العجب، كما تثير الرحلة نفسها بالجسد والروح العجب، إذ تعجز العقول عن الإحاطة بمثل هذا التدبير، كما تعجز عن الإحاطة بتلك القدرة، والعرب تقول سبحان الله، إذا تعجّبت من الشيء، وقد تبين ما في هذه الآية "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنّه هو السميع البصير"، من التنزيه والعجب، وممّا يدعو للعجب اليوم، استعجال الناس خاتمة حدث لم يمض عليه ثمانية وستون عاما، وتدبيره في التاريخ سابق منذ دهور مديدة، وقد جاء في الآيات الأولى من السورة نفسها قوله تعالى: "ويَدْعُ الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا".