حلب هي أمّ المجازر والمذابح في العصر الحديث نشاهدها صورا حية على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي بل إن قصف مستشفى الأطفال قد نُقل إلينا صورا حية من داخل المستشفى نفسه. الجريمة ليست جديدة على نظام الموت والعصابات الدولية المتحالفة معه في بلاد الشام فالبلاد تشهد حرب إبادة حقيقية وتعرف عملية تهجير منظمة بهدف إعادة رسم الخارطة الديمغرافية لبلاد الشام وللمشرق العربي بشكل عام. في سوريا والعراق ولبنان... عمل استعماري جبار ومتواصل من أجل تجديد ظروف "سايكس بيكو" بأدوات إقليمية من أجل جعل الجوار الصهيوني عالما من الفوضى ومن الاقتتال الذي يمنع كل نظام عربي سيادي من الوقوف في وجه الكيان التوسعي.
هذا المشهد بما فيه مذبحة حلب ليس جديدا في حجم الموت وأنهار الدماء لكن الجديد الذي ساهمت ثورات الغضب العربي في كشفه وإخراجه إلى السطح- أي إلى سطح الوعي العربي- هو حجم التآمر الإيديولوجي المقصود أو غير المقصود من نُخب عربية هي بالمنطق الثوري أكثر إجراما في حق الشعوب وفي حق الأمة من النظام الاستبدادي نفسه رغم كل جرائمه.
سفاح الشام لا يلام على جرائمه لأنها عادة عائلية من ناحية فقد نفذها أبوه قبله في حماة وفي كل سجون سوريا السرية والعلنية وهي من ناحية أخرى وظيفة النظام الطائفي المكلف بحراسة الحدود الصهيونية والإيهام بالمقاومة والممانعة عبر أنيابه وأظافره في المنطقة. لكن جحافل القومجيين العرب من بقايا الراقصين على أوهام الزعيم الخالد مؤسس "العسكرتاريا" في مصر السجينة لا يزالون إلى اليوم ـ أو لا يزال البعض من بقاياهم التي ترفض التحلل ـ يوهمون الناس بأن السفاح المجرمَ ملاكٌ طاهر بعد أن هجّر أكثر من نصف الشعب السوري وقتل ما يفوق نصف مليون نفس بشرية أغلبهم من الأطفال والنساء والمدنيين.
"البكباشي عبناصر" ـ بتقييم الأمم الراقية ومقاييس التحضر عند الأمم التي أنجزت نهضتها ـ هو بدون منازع أحد أهم أسباب نكبة الأمة بأن حكم على مصرَ بما هي قلب الأمة بالموت والسكون والتخلف ومنع عنها النهضة والتقدم بذبح الحرية والتأسيس للكيان الحارس للكيان الصهيوني في مصر. لكن "وريث أبيه" في جمهورية الطائفة المجرمة بأرض الشام لم يكتف بجعل سوريا وكيلا إقليميا لولاية الفقيه من جهة ولأحلام القيصر الصغير من جهة أخرى بل قدّم للبشرية جمعاء درسا في التوحشّ فجلب لشعبه كل كتائب الموت وفرق الذبح الطائفية تحت غطاء الجيش العربي السوري المزيف.
كذبة العروبة ورداؤها التي تلحّف به النظام الإجرامي العسكري في مصر ـ إلى جانب طاغية ليبيا وطغاة آخرين ـ تمزق على جسد النظام الإرهابي في سوريا فكشف عوراته وفضح زيف عروبته بل كشف أنه ألد أعدائها. فكيف نفسر إذن عداء القومجيين المتأصل للعرب وخاصة لعرب الخليج برمزيتهم العربية الأصيلة وبانتمائهم الراسخ للأرض المقدسة ولمهبط الوحي ومهبط اللغة ومنبع الحضارة وقيمها.
صحيح أن النظام الاستبدادي العربي كان ولا يزال نظام وكالة استعماري لقوى وإمبراطوريات إقليمية أو دولية هدفه الأساسي الحفاظ على نفسه عبر قمع الشعوب وتخديرها بكل أصناف الأكاذيب والشعارات الإيديولوجية التي عراها ربيع الأمة وذهبت بمساحيقها وأصباغها نسائم الحرية التي خرجت الجماهير مطالبة بها. لكن نُخب الإيديولوجيا المرتبطة به و"كلاب حراسة" أوهام الزعيم وشعارات الدجّال الأعظم هي التي خانت الأمانة واصطفت إلى جانب المجرم لا إلى صف ضحاياه من أهلهم وذويهم.
فبالأمس القريب عندما شرع "الزعيم الخالد عبناصر" في تصفية معارضيه من المصريين شيوعيين وإسلاميين ومستقلين ولبراليين... كانت جحافل القومجية من ضباط أمن الدولة تهتف في شوارع مصر: "ذبّح ذبّح يا جمال... لا رجعية ولا إخوان"، "دبّح دبّح يا جمال... لا رجعية ولا إسلام"، "عبد الناصر قلها زمان... الإخوان ملهمش أمان". وهي شعارات لا تختلف عن شعارات "شبيحة الأسد" بدءً بشعار "الأسد إلى الأبد" وصولا إلى الشعار الأصدق لمذابح الشام "الأسد أو نحرق البلد" التي تترجم بصدق نادر كيف يتعامل نظام الموت العربي مع مخالفيه.
المكسب الكبير من كل ما حدث هو الوعي الجديد الناشئ بزيف الإيديولوجيات السياسية عن بكرة أبيها من يسارية وقومية ولبرالية وعلمانية... لأنها تنتهي بإنكار الإنسان باعتباره رأس كل القيم ومنتهى كل الغايات فتقتل فكره النقد وهامش الاختلاف لتقدس فكرة الزعيم والقائد والبطل الملهم الذي انكشف اليوم مستبدا طاغية لا يرحم.