قضايا وآراء

الصحافة الحرة لحوم مرة

1300x600
الصحافة ليست جريمة في الدول المحترمة بل هي درة تاج الحريات، بينما هي على العكس تماما من ذلك في الدول الديكتاتورية ومنها مصر، فالديكتاتوريات بطبيعتها لا تستطيع أن تتعايش مع الصحافة بمفهومها الطبيعي، ولا تقبلها إلا مجرد أذرع وأبواق وأدوات للحشد والتعبئة والترويج لمنجزات وهمية لتلك الحكومات.

هذه أمور معلومة من تلك الحكومات بالضرورة، لكن غير المفهوم وغير المبرر أن تقبل الصحافة أو غالبية منتسبيها التعامل مع أنظمة ديكتاتورية على وهم أنها ستمنحها حريتها بعد أن تستقر الأوضاع، فـ"الحداية لا تلقي كتاكيت" كما يقول المثل المصري. ما حدث مع الصحافة المصرية في غالبها عقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 يؤكد ذلك إذ ارتمى غالبية الصحفيين والإعلاميين في أحضان الحكم الجديد بوهم أنه سيوفر لهم المن والسلوى والعسل المصفى والحريات الكاملة بعد أن يجهز على خصومه من الإسلاميين الذين تمت شيطنتهم وتصويرهم باعتبارهم أعداء حرية الصحافة رغم أنهم لم يسجنوا صحفيا ولم يغلقوا صحيفة أو قناة في فترة حكم الرئيس مرسي. لكن نظام 3 يوليو ككل نظام ديكتاتوري يتعامل مع الإعلام باعتباره فقط مجرد أبواق له، فإن خرج عن هذه المهمة وجب تاديبه وإعادته للحظيرة بأي طريقة، وهذا يفسر العدوانية الشديدة التي تعاملت بها الأجهزة الأمنية للنظام مع الصحفيين الذين عارضوا الانقلاب منذ البداية فزجت بالعشرات منهم في غياهب السجون وقتلت 11 صحفيا ومصورا، وأغلقت عشرات الوسائل الإعلامية بين صحف وقنوات وإذاعات ومواقع إلكترونية، ولا يزال حوالي 25 منها مغلقا حتى هذه اللحظة، وما تكرر خلال الأيام القليلة الماضية من عمليات اعتقال ومداهمة واسعة وحصار لنقابة الصحفيين.

لم يتحرك السواد الأعظم من الصحفيين والإعلاميين في مصر للتضامن مع زملائهم ضحايا القمع الأمني في بدايات عهد الانقلاب، وتعاملوا مع هذا القمع باعتباره موجها ضد فصيل سياسي بعينه وأنه حتما لن يطال الآخرين من الذين صفقوا وهللوا للنظام الجديد ووضعوا إمكانياتهم في خدمته دعما وترويجا في انتظار أوهام تحسين ظروف الصحفيين وحرياتهم، وتحسين أوضاع الوطن ككل، لكن الكثيرين من هؤلاء أفاقوا على  وقع ضربات جديدة مباغتة طالت الكثيرين منهم رغم أنهم ليسوا معارضين بالأساس لنظام الحكم الحالي بل هم لا يزالون معارضين لخصوم النظام من الإخوان تحديدا، ولم يعد بمقدور هؤلاء الصحفيين والإعلاميين أن يعبروا عن مواقفهم وآرائهم بحرية، ومن يحاول يكون مصيره المنع من الكتابة أو الظهور على القنوات، بل وصل الأمر إلى حد حبس بعضهم فعلا ليجدوا انفسهم فجأة إلى جوار زملاء لهم سبقوهم إلى الحبس لرفضهم المبكر للانقلاب العسكري. ووصل الأمر إلى منع طباعة بعض الصحف حين حملت مانشيتات أو مواد صحفية تتضمن نقدا لبعض الممارسات الحكومية، وانتهى الأمر بمطاردة الصحفيين في الشوارع واعتقالهم والاعتداء عليهم يوم 25 إبريل 2016 أثناء قيامهم بعملهم الميداني في تغطية المظاهرات، بل محاصرة نقابة الصحفيين ذاتها، ومحاولة اقتحامها أكثر من مرة، ومنع أعضائها من الدخول إليها، وهو الأمر الذي يحدث للمرة الأولى في تاريخ النقابة، وهو ما أشعر الصحفيين بانتهاك كرامتهم فتحركوا للذود عنها. وللتأكيد للسلطة القائمة أن لحم الصحافة الحرة مر وأن لحم الصحفيين الأحرار مر، فقد نظموا وقفة حاشدة أمام نقابتهم يوم الخميس الماضي تبعهتا مسيرة ترفع الأقلام والكاميرات إلى مكتب النائب العام، حيث تم تقديم العديد من البلاغات له ضد وزير الداخلية ومدير أمن القاهرة.

في الأثناء لا يزال الإعتصام الذي بدأته أسر الصحفيين السجناء القدامى منذ يوم 10 إبريل 2016 متواصلا في النقابة يقاوم ضغوطا لفضه، وقد شجع هذا الاعتصام صحفيين آخرين على الدخول في اعتصام أيضا مثل رئيس تحرير بوابة القاهرة عمرو بدر وصحفيين آخرين معه احتجاجا على مطاردة الشرطة لهم ومداهمتها لمنازلهم، وبشكل عام عادت نقابة الصحفيين المصريين لتصبح المنبر الرئيس لحرية التعبير في مصر، ولتحتضن كل صاحب مظلمة وهو الدور التاريخي الذي قامت به النقابة منذ أيام حكم مبارك، لكن نفرا من أبنائها ممن إلتحقوا مبكرا بالانقلاب العسكري حرفوا النقابة لبعض الوقت عن ذلك الدور، وحرموا أبناءها السجناء من دفاعها عنهم كما كانت تفعل دوما من قبل. وعلى العموم فقد أصبح ذلك الوقت الذي غابت فيه النقابة عن دورها بمثابة جملة اعتراضية في مسيرتها الناصعة دفاعا عن الحرية والكرامة لأبنائها ولعموم الشعب.

في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو 2016) فإن الرسالة الأساسية التي أود التركيز عليها لزملائي الصحفيين والإعلاميين هي أن القمع لا يفرق بين الصحفيين على أساس معتقداتهم السياسية أو الدينية أو الجنسية، أو العرقية، أو حتى على أساس موقفهم من الانقلاب العسكري. ففي السجن حاليا يقبع إبراهيم الدراوي إلى جوار إسماعيل الإسكندراني (الليبرالي)، وأحمد سبيع إلى جوار يوسف شعبان (اليساري)، وحسن القباني إلى جوار محمود شوكان (المستقل)، ومحمد البطاوي إلى جوار زميله في الأخبار  احمد ناجي (العلماني)، وهاني صلاح الدين إلى جوار زميله في اليوم السابع أيضا  إسلام عفيفي (المعادي للتيار الإسلامي). وحين أغلق النظام صحفا لم يفرق بين جريدة الحرية والعدالة والشعب وجريدة وصلة الليبرالية، وحين منع برامج لم ينظر لأي دعم سابق من باسم يوسف أو محمود سعد أو يسري فودة، أو بلال فضل، أو علاء الأسواني، أو فاطمة ناعوت، بل لم يتذكر أن كاتب ديباجة دستوره هو الشاعر سيد حجاب الذي منعت مقالاته في جريدة الأخبار مؤخرا وهو ما تكرر مع آخرين. وبالتالي فإن واجب الصحفيين والإعلاميين عموما هو التمسك بحريتهم والذود عنها بكل قوة، وعدم التمييز في تضامنهم النقابي بين الصحفيين على أساس إنتماءاتهم السياسية، والتحرك القوي للإفراج عن الصحفيين السجناء وإعادة القنوات والصحف المغلقة حتى لا نفاجأ بمزيد من الاعتقالات للصحفيين ولا بمزيد من الصحف والقنوات المغلقة، ولنتذكر دوما: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض".