قضايا وآراء

محاولة لفهم مؤيدي العسكر

1300x600
عندما كنا صغارا وهذا منذ زمن بعيد كان آباؤنا يحكون لنا عن المسيح الدجال، ولأننا كنا أطفالا في مراحل البراءة؛ كنا نتعجب من اتباع الناس له وهو مكتوب على وجهه كافر و أذكر أنني وكثير ممن كنت أعرفهم في مثل عمري ربما يصدقون كلام الكبار ولكنهم أبدا لم يقعوا في مساحة اليقين أو الإيمان بهذا الرجل المكتوب على وجهه كافر و يصدقه الناس.

مرت الأيام وضاعت البراءة وأصبح من الممكن أن نقتنع بإمكانية حدوث ذلك وظل اليقين الكامل بعيدا عن عقولنا.

عشنا في مصر سنوات عجاف ظهر فيها عشرات الدجالين أتباع المسيح الدجال الكبير، ووجدنا أنفسنا في تجربة حية مصغرة ربما أو بروفة تمهيدية لتلك الفكرة المتناقضة في ذاتها فكرة الكاذب والفاجر والمنافق نفاقا بينا والمتناقض مع أقواله ذاتها، ومع كل ذلك تجد كتلة صماء تابعة له بدون أي تغيير أو تبديل أو حتى نقاش.

هذه القضية ليست كما أراها لها علاقة بالقوى العقلية أو القدرة على التحليل المنطقي، فمع المسيح الدجال الصغير كتاب ومفكرون ومثقفون وجزء لا بأس به من كريمة الطبقة الوسطى وجزء مقدر من الفقراء والبؤساء وأرى أن أغلبية هؤلاء لا يفتقدون إلى الحد الأدنى من القدرات العقلية والمنطقية  للحكم الحاسم بالخيانة على المسيح الدجال الصغير.

لم إذن يفعلون ذلك؟ الآن بعد بيع الأرض العرض يمكننا قبول التفسير الآتي بقدر عال من الارتياح..

نحن بحاجة أولا إلى تصنيف تلك القطاعات، فهناك المؤيدون له من الشريحة العليا من المجتمع التي تتحكم في مصادر الثروة والسلطة وهي ترفض رفضا مطلقا أن يشاركها أحد في ملكها وترفض أن يشارك أولادها أحد في ميراث السلطة والثروة.

هؤلاء لا يعنيهم أن يكون من في رأس السلطة خائنا أم وطنيا أم حتى صهيونيا، معيارهم الوحيد هو قدرته أن يحفظ لهم ما يمتلكونه من السلطة والثروة، وعندما يدافعون عنه يكون في ذهنهم فقط هذا المعيار وبالتالي يوجهون أفكارهم وأقوالهم وكل إمكاناتهم من إعلام وقوي ناعمة وأحيانا خشنة للحفاظ عليه مهما فعل، فهو مجرد واجهة لهم لحمايتهم في مقابل احتفاظه بمكانه وليذهب كل شيء عدا ذلك للجحيم. 

فهم لا يؤمنون بوطن أو شعب أو أي أنساق للقيم، الشيء الوحيد المؤمنون به هم أنفسهم واختزلوا كل شيء فيها.

هؤلاء سيدافعون عنه بكل قوة مهما فعل طالما حافظ على بنود العقد غير المكتوب، ولهذا كان عداؤهم الهائل للدكتور محمد مرسي، فمجرد أنه من خارج دائرتهم العفنة قرروا محاربته بكل قوة لأنه اختراق كبير لحدودهم وكان عليهم القتال حتى لو لم يعلن العداء لهم، فهم أقدر من فينا على الإحساس بالخطر من التطهير البادي لهم في الأفق.

المحير والغريب هو التأييد من  قطاعات الطبقة الوسطى بتصنيفاتها المتعددة له، قد نفهم تأييد القضاة والضباط له فهم "كريمة" الطبقة الوسطى المحتكرون لجزء هام من مستوى عال من السلطة ويتمتعون بامتيازات كبيرة تجعلهم يرتبطون ارتباطا عضويا بالسلطة الفاسدة التي تستخدمهم كحائط صد قوي ضد باقي الشعب. ولكن الغريب حقا هو استمرار قطاعات أخرى كأساتذة الجامعات والأطباء وغيرهم في تأييده حتى الآن.

أرى أن ذلك لن يخرج عن عدة أسباب أولها العداء الأيديولوجي لفكرة الإسلام السياسي وأحيانا المرجعية الإسلامية بشكل عام، والسبب الثاني هو الإحساس بالدونية تجاه الطبقة الحاكمة، ما يجعل هذا الجزء يمتلك قناعة بضرورة تولي تلك الطبقة الحكم مهما فعلت به من ظلم ويرتبط ذلك بفقدان الثقة في الذات وفي الغير خلاف تلك الطبقة الحاكمة حتى لو قهرته، ومتلازمة ستوكهولم ربما تكون قريبة من توصيف تلك الحالة ويمكن تسميتها في مصر بمتلازمة العسكر عند هؤلاء القوم.

وآخر تلك الأسباب وأكثرها قسوة هو الإحساس المطلق بالهزيمة والعجز الذي يفضل صاحبها الحالة السيئة المهينة التي يدركها تماما، ولكنه عاجز تماما عن تغييرها بقرار ذاتي لأنه أصبح غير قادر على مواجهة أي تغيير محتمل حتى لو كان إيجابيا، وقد أبدع العسكر على مدى ستين عاما في تدمير بنية الشخصية المصرية للوصول إلى هذا النموذج المثالي من النوع الثاني والثالث عن طريق القهر المتتالي والتسطيح لكل شيء وهدم منظومة القيم وتفتيت المجتمع، واستطاع الوصول إلى نتائج مبهرة لدرجة أن هذا الإحساس بالهزيمة جعل الكثير من هؤلاء يدافعون دفاعا مستميتا عن ملكية السعودية للجزيرتين.

أما البؤساء والفقراء فهم ضحية كل المجتمع وهم المتطلعون إلى الخروج من دائرة الفقر وتعمد عسكر مصر زيادة مساحة الفقر وتغذية الإحساس أن العسكر هم المنقذون لهم بالمخالفة لكل التاريخ وحتى الواقع، ولكن عندما يغلب الجوع والقهر والضياع وغياب الحلم والأمل والمستقبل يتعلق البؤساء بمن يصنع لهم الحلم حتى لو كان حلما كاذبا، فهم لم يجدوا حلما آخر ليتعلقوا به.

هؤلاء هم القوة الضاربة لكل مستبد لأنه يستطيع بكل أدواته اللعب على مشاعر الأمل الكاذب والحلم الذي لن يتحقق، بل إنه يدفع بهم إلى الأسفل ليزدادوا فقرا وفي نفس الوقت يستمر في نشر الآمال الكاذبة التي لن تتوقف أبدا، وأزعم أنني أمتلك الشجاعة لأقول إنهم لن يتوقفوا عن التصديق مهما طال الزمن ومهما كان حجم الكذب إلا عندما يجدون من يصنع لهم الحلم.

على المستوي الشخصي لا أجد أملا في "علية القوم" فهم سيقاتلون معه حتى طلقته الأخيرة، كما يصعب العمل مع الطبقة الوسطى المعادية في طبيعتها للتغيير الشامل، وأرى أن الرهان الحقيقي على فقراء مصر المظلومين في كل العصور، إن صناعة الحلم الحقيقي لهم لابد أن يكون مشروع الثورة المصرية التي ستجد الملايين يندفعون خلف الحلم الذي ما زلنا نبحث عنه.