شبه بعضهم معركة مدينة بن قردان ضد المجموعة التابعة لتنظيم الدولة بمعركة أخرى حصلت في زمن آخر وفي بلد بعيد ومختلف، وهي معركة "ستالين غراد" التي أوقفت زحف الجيش الألماني النازي بقيادة أدولف هتلر. لا شك في أن المعركتين مختلفتان كليا، لكن الرابط الرمزي بينهما هو الذي دفع نحو هذه المقارنة. إذ لو ارتبكت المؤسستان العسكرية والأمنية، وفشلتا في احتواء الهجوم المفاجئ للثكنة بالمدينة إلى جانب المراكز الأمنية ومقر المعتمدية والمستشفى المركزي، لوجد التونسيون أنفسهم أمام وضع صعب وكارثي نظرا لرغبة تنظيم "داعش" الإعلان ولو بشكل رمزي في إقامة إمارة موالية له في أهم مدينة تقع على الحدود التونسية الليبية. فكما تصدت مدينة ستالين غراد التي أنقذت دولة روسيا الشيوعية من السقوط، يعتقد الكثير من مكونات النخب التونسية أن مدينة بن قردان قد يكون لها الدور نفسه والنتيجة نفسها.
لا نستطيع الجزم بذلك وأن نكون متفائلين أكثر من اللزوم، لأنه كما صرح رئيس الحكومة الحبيب الصيد بعد العملية: "ربحنا معركة ولا نقول إننا ربحنا الحرب". فالحرب ضد هذه المجموعات لا تزال مستمرة لفترة قد تطول، ولا شك في أن تنظيم الدولة يهيئ نفسه حاليا للانتقام بعد أن مني بهزيمة قاسية ومؤثرة بمدينة بن قردان، حيث سقط له حتى كتابة هذا المقال 49 قتيلا من بين كوادره النوعية.
لا شك في أن ما حدث كان تأثيره ملحوظا في نفسية عموم التونسيين. إذ بالرغم من الثغرات الأمنية التي تكررت مرة أخرى وإن كان بصيغة مختلفة، لكن هذه المعركة العسكرية أظهرت أن تونس ليست لقمة سائغة أو بلدا هشا يمكن أن ينهار بسهولة أمام ضربات هذا التنظيم. ولعل قيادات "داعش" قد لمست ذلك بوضوح، وهو ما من شأنه أن يجعل عموم التيار السلفي، وبالأخص العنيف منه، يراجع الكثير من حساباته، ويدرك بأن تونس دولة ومجتمع ليس بالهشاشة التي كان يتوقعها تنظيم الدولة، وليست بلدا يمكن أن تقبل الخضوع لسلطتهم مهما توفرت لديهم الأسلحة المختلفة، ومهما بلغ إصرارهم على حكم أهلها بالقوة.
وأذكر أني تحدثت قبل سنتين تقريبا مع أحد كوادر حركة أنصار الشريعة، الذي كان واثقا من أن ميزان القوى سيتغير لصالحهم قبل أن يصبح تنظيم الدولة هو الغالب وصاحب المبادرة في تونس وفي غيرها من البلدان العربية. وأذكر جيدا أنه أشار يومها إلى التطورات العسكرية المحتملة التي ستعيشها ليبيا، والتي تعتبرها كل التنظيمات "الجهادية" بالمغرب العربي نقطة الارتكاز في إستراتيجيتهم العنفية. ولهذا، لم تكن عملية بن قردان مفاجئة لي، لأن سعيهم للسيطرة على تونس سيمر بالضرورة عبر ليبيا، وبما أن هذه المدينة هي بداية التراب التونسي، فإن افتكاكها يعني عملية الشروع في تنفيذ هذه الخطة التي يتم الإعداد لها منذ فترة طويلة، وخاصة منذ أن غادر أبو عياض، زعيم أنصار الشريعة، تونس متسللا إلى ليبيا بعد أن تم التضييق عليه، واتخذ قرار اعتقاله من قبل السلطات التونسية.
في ذلك اللقاء الذي جمعني بهذا الشخص، أكدت له بأن المسألة لن تكون سهلة كما هم يتصورون، لأن الحالة التونسية تختلف كثيرا عما حصل فيما بعد بمدينة "الموصل" أو في سوريا. ليس لكون النظام التونسي أقوى من النظامين العراقي والسوري، ولكن لاختلاف الأوضاع والسياقات. فالتونسيون ليسوا أقلية خائفة من أغلبية ظلمتهم مثلما حصل في العراق. كما أن البلد ليس مفتوحا بالشكل الذي تمر به سوريا حتى الآن.
هناك قطيعة مؤكدة بين عموم التونسيين من جهة وتنظيم الدولة بالخصوص من جهة أخرى. قد يخاف عدد من التونسيين من أسلوب التوحش الذي مارسه تنظيم الدولة في أكثر من بلد، لكن ما حدث في هذه الدول لم يجعل إلا قلة قليلة من الشباب التونسي يقبل بأن يمنح ولاءه لهذا التنظيم. لاشك في أن الآلاف من التونسيين قد بايعوا "داعش" وأصبحوا من كوادره وجنوده، لكن ذلك لم يطمس حقيقة لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي أن الغالبية الكاسحة من التونسيين لا يزالون يرفضون التخلي عن بلدهم ودولتهم وفهمهم المختلف للإسلام. لقد نجحت هذه الجماعة وغيرها في إثبات قدم لها داخل تونس سواء عندما كانت معتمدة على الأسلوب السلمي في نشاطها، أو عندما انتقلت إلى العمل المسلح وتمركزت بالجبال وافتكت منها المبادرة من قبل "داعش"، ونفذت العشرات من العمليات الإرهابية، لكن الجميع رغم ذلك لم يكتسبوا الشرعية لدى عموم الشعب، ولا يزال الملايين من التونسيين يرفضونهما بشكل قطعي، ويستعدون لمواجهتهما بطرق متعددة.
ما حدث في بن قردان أثار رجة في داخل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وتكفي الإشارة إلى افتتاحية صحيفة "لوموند" التي انتقدت بقوة الطبقة السياسية الفرنسية التي لم تدرك إلى حد الآن أهمية الصراع على تونس، ولم تع بالقدر الكافي ماذا يعني أن تصبح للتنظيمات المسلحة مواقع قدم في هذا البلد. ولهذا السبب سارع وزيرا الدفاع والخارجية الفرنسيان بزيارة تونس للتعبير عن تضامنهما.
لا يعني ذلك الاستئساد بالأوروبيين في هذه المواجهة، فمسؤولية الدفاع عن تونس هي مسؤولية التونسيين أنفسهم بدرجة أولى، ولكن أردنا أن نشير فقط إلى أن هذه الرقعة الصغيرة من الأرض تشكل أهمية حيوية لكامل المنطقة العربية والمتوسطية والإفريقية. ولهذا قد تسيل دماء كثيرة، لكن لن يقع تسليم تونس لأي طرف يريد أن يفتكها بالقوة ويهيمن عليها. ولمن يريد التأكد من هذه الحقيقة عليه أن يقرأ التاريخ ويلقي نظرة بسيطة على الخريطة.