تعاملت إيران وأدواتها في لبنان والعراق مع نمر باقر النمر، بوصفه جزءا من الجالية الإيرانية في العالم وليس مواطنا سعوديا خاضعا لدولة وطنية مستقلة هي المملكة العربية السعودية. فإيران من خلال ما يمكن تسميته «الوكالة الخمينية»، تبدو كالوكالة اليهودية سابقا، في حضها للشيعة في العالم للتعبير الحاد عن خصوصياتهم المذهبية، وإضعاف رابطهم الوطني في الدول التي يعيشون فيها. فالشيعي شيعي أولا، وربما أخيرا، في دولته والتشييع يعني إيران، باختصار حزبي مشوه. وحيث لا تنجح في استتباع الشيعة ككل، تجتهد الوكالة الخمينية لدعم فريق بين الشيعة يهيمن على الطائفة وقرارها وتوجهاتها كما هي الحال في لبنان، بشكل لا يبقي الكثير من المجال لشخصيات شيعية قد لا تتفق بالكامل مع برنامج حزب الله كمثل حال الرئيس نبيه بري.
غير أن هذه الصورة ليست الصورة الكاملة، فإيران مشروع ذو طبيعة مزدوجة: مذهبي شيعي وقومي فارسي.
صحيح أن إيران حولت المذهبية إلى دولة ومؤسسات حكم وسياسة خارجية، حيث إنها الدولة الإسلامية الوحيدة التي ينص دستورها على المذهب وليس على الدين، كهوية لدولة، إلا أنها لم تتردد في إسقاط المصلحة المذهبية حين تتهدد المصالح القومية لإيران. وإذا كان اصطفاف إيران مع أرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية، وموطن الأذريين الذين يتحدر منهم المرشد علي خامنئي، هو المثال الكلاسيكي على تغليب الاعتبار القومي على المذهبي، فإن الموقف من نمر النمر يعطي مثالا أفضل على «فصام» إيران المذهبي لخدمة مصالحها.
حين تسلم الإمام الخميني السلطة في إيران سارع إلى قطع العلاقات مع ليبيا نتيجة الشكوك بدور ليبي في اختفاء الإمام موسى الصدر. لكن المفارقة كانت أن هذه العلاقات استعيدت كاملة بعد تسعة أشهر فقط، في 1979، بالتزامن مع تهيؤ الخميني للإطباق على تفاصيل منظومة الحكم في إيران.
ثم ما لبثت أن تحولت ليبيا، على غرار سوريا، إلى حليف وثيق الصلة بإيران طوال سنوات الحرب الإيرانية - العراقية، وهو ما تشهد له الأسلحة الليبية، الروسية الصنع، من ألغام بحرية ودبابات وصواريخ سكود، التي لعبت دورا بارزا في مساندة وتغذية المجهود الحربي الإيراني في الخليج.
وفي هذا السياق، يروي وزير الخارجية اللبناني، الراحل قبل أيام، فؤاد بطرس، في مذكراته الصادرة عن «دار النهار»، تفاصيل صادمة عن الإهمال الإيراني المبرمج الذي تعرضت له قضية اختفاء الإمام الصدر خلال أعمال مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية الذي انعقد في الرباط في مايو (أيار) 1979. يكشف بطرس عن جانب من المراسلات بينه وبين سفير لبنان في الرباط، عادل إسماعيل، الذي كُلف من الخارجية اللبنانية بطرح قضية الصدر وعن تفاصيل الاتصالات بين إسماعيل والوفدين الإيراني والليبي.
يروي بطرس أنه خلال حوار بين إسماعيل ووزير الخارجية الليبي حول تمني الأخير عدم طرح قضية الصدر، قال المسؤول الليبي لإسماعيل إن رئيسه عبد السلام جلود كان في ضيافة الإمام الخميني لفترة أسبوعين، وإنه «لمس لدى الخميني عدم اهتمام بهذه القضية ولم يحدثه عنها إلا بصورة عابرة»!! كما يكشف بطرس أن إسماعيل شعر أن اتصال أحد أعضاء الوفد الإيراني به لسؤاله عن احتمال طرح قضية الصدر على أعمال المؤتمر، يقع في خانة «رفع العتب»، بعد أن يوضح أن المسؤول الإيراني قال له إنه «لا لزوم لتقديم أي طلب» لإيضاح قضية الصدر!!
واللافت أيضا أن يصل مستوى العلاقات الليبية - السورية إلى مستوى إعلان الوحدة بين البلدين في عام 1980؛ أي بعد أكثر من سنتين بقليل من اختفاء الإمام الصدر في ليبيا، علما بأن الزعيم الليبي معمر القذافي زار دمشق في 1979 وكان يفترض أن يتابع زيارته إلى لبنان لولا الموقف الرافض للزيارة الذي عبرت عنه جماهير الإمام الصدر، وتولى تبليغه للدولة اللبنانية، قبل ساعات من الزيارة، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
بهذا المستوى من الإهمال المتعمد تعاملت إيران مع قضية اختفاء الإمام الصدر، أحد أبرز الشخصيات الشيعية في التاريخ الحديث، وبهذا الاستنفار الذي شاهدناه تعاملت مع تنفيذ حكم الإعدام بحق نمر الشخصية «الدينية» الضحلة، والناشط الشعبوي الشديد المذهبية، والشخص الذي حمل السلاح في مواجهة الدولة السعودية خدمة لإيران، التي يريد استيراد نموذج ولاية فقيهها إلى السعودية كما يقول في خطبه المسجلة.
يتضح بين الصدر والنمر، أن المسألة ليست مسألة الشيعة والدفاع عنهم وعن مصالحهم كما تزعم طهران، بل استخدامهم لخدمة مشروع الدولة الإيرانية الذي لا يقوم إلا على إضعاف الآخرين، لا سيما العرب، وإنهاك دولهم واستنزاف مجتمعاتهم.
الشيعة ليسوا جالية إيرانية بنظر إيران إلا حين يخدم تحريكهم أهداف الدولة الإيرانية. الشيعة ليسوا جالية إيرانية، وحبذا لو يعلي عقلاؤهم الصوت أكثر ولو يلاقي هذا الصوت عقلاء فاعلين في الطرف الآخر.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية