تعرّضت تونس خلال أقل من سنة لأكثر من عملية إرهابية، مسّت مآثرها التاريخية ومواقعها السياحية، وطالت قلب أمنها الرئاسي، ولا يُعرف على وجه اليقين إلى أين ستصل، ومتى ستتوقف؟؟
وفي كل مرة يضرب الإرهاب البلاد التونسية تتعالى أصوات التنديد، و يتزايد الإصرار على مكافحة صنّاع الموت بُغية القضاء عليهم..غير أن الإرهاب، بالمقابل، يتجدد، ويتقوى، ويُثبت بالدليل على أنه قادر على الاستمرار مهدِّدا، وفاعِلاً، وممتداً غير متراجع. ومن تابع ردود فعل المواطنين على العملية الإرهابية الأخيرة التي ضربت الأمن الرئاسي التونسي، يقرأ في عيون الناس غضبَهم مما يحصل أمام أعينهم، ويلمس في ألسنتهم انتقادَهم عجزَ الدولة وأجهزتها عن الاستباق في التصدي للإرهاب ومواجهة وقوعه.
أصبح واضحاً أن الإرهاب لم تَعد له حدود واضحة، أو منطقة بعينها، كما أثبتت الوقائع أن الإرهابيين الذين هاجروا إلى بلاد المشرق حالمين "بالجهاد في سبيل الله، نُصرة لإخوانهم في الملّة والدين"، عادوا إلى أوطانهم ومنطقتهم يُرعبون أبناء جلدتهم، ويُعيثون في مدنهم وقراهم ظلماً وتنكيلاً. لذلك، لم يتردد أمراء الدولة الإسلامية " داعش" في إعلان بلاد المغرب امتدادا لخلافتهم في المشرق، ولم يتخلفوا في الاعتراف بمسؤوليتهم عن العمليات الإرهابية التي نُفذت في الأراضي التونسية. نحن في الواقع أمام مشروع واحد بتنظيمات إرهابية مختلفة ومتنوعة، لكن باستراتيجية موحدة مهما تباينت تسميات المنفذين.
سبق لكتابة الدولة الأمريكية أن حذرت في تقريرها العالمي لمكافحة الإرهاب لعام 2012 من أن بلاد المغرب ستكون عُرضةً لموجات الإرهاب، وأن "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" تُضاعِف قوتها ليشمل تهديدها كل دول المنطقة، لاسيما بعد انتشار مقاتليها في جبال شرق الجزائر، والمناطق الصحراوية الجنوبية. وقد تعزز هذا التحذير بانفراط الأمن في شمال مالي ، وانتشار الأسلحة المُهرَّبة من ليبيا، وبروز " حركة التوحيد والجهاد" في غرب إفريقيا. والواقع أن أحداث كثيرة ضربت مالي والجزائر أكدت صحة هذا التحذير، كما أن المنطقة المغاربية نفسها أصبحت مجالاً حيويا لعدد من التنظيمات " الجهادية"، أبرزها: "تنظيم جُند الخلافة"، و"تنظيم القاعدة في الغرب الإسلامي"، و"تنظيم المرابطون"، و"تنظيم الملثمين" بقيادة مختار بلمختار. ناهيك عن "بوكو حرام" في نيجيريا، والجماعات الجهادية في شرق ليبيا و"كتيبة عقبة بن نافع" في تونس.. نحن إذن أمام كتلة من التنظيمات يجمعها هدف واحد زرع الرعب والإرهاب في بلاد المغرب والدول الإفريقية المتاخمة لها.
ابد من التسليم بأن ليس للإرهاب وطناً بعينه وبذاته، كما ليس له ألوانا مختلفة، إنه إرهاب بلا حدود ولا أوطان ، وهو من طينة واحدة. لذلك ليس للتسميات مهما تباينت أية قيمة عملية. ومن هنا تكون بلاد المغرب مُطالبة بصياغة إستراتيجية موحدة، مشتركة، واضحة وفعالة لمكافحة الإرهاب والقضاء عليه. ففي إحصائيات حديثة قدرت بعض مراكز الدراسات الإستراتيجية في المنطقة أن أعداد الجهاديين الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية تجاوزت ثمانية آلاف )8000(، موزعة ما بين 2000 جزائري وموريتاني، و2500 مغربي، و3000 تونسي، ولعل هذا ما يفسر المكانة التي يحظى بها هؤلاء الشباب داخل التنظيمات "الجهادية" في المشرق.. وفي الآن معا الخطورة التي يمثلونها على بلدان منطقتهم حين عودتهم.
قَرينَ هذه التطورات لا تبدو بلادُ المغرب جادّةً بما يكفي لصياغة رؤية مشتركة لمكافحة آفة الإرهاب، أما مردُّ ذلك فيعود لأسباب مختلفة، منها واقع التباعد السياسي بين البلدان المغاربية، وضعف التدبير العقلاني للاختلافات، ومحدودية ثقافة البحث عن المشترك والدفاع عن المصالح الجماعية. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل وزراء داخلية بلدان اتحاد المغرب العربي من أجل إقامة تحالف أمني لمحاربة الإرهابيين ، أطلق عليه " صيد الأشباح"، مدعومين من لدن الإتحاد الأوروبي والقيادة الأمريكية في إفريقيا، فإن الوضع يزداد قلقاً، والتهديد الإرهابي يتصاعد باستمرار، بل إن العمليات الإرهابية تضرب البلدان، كما حصل في تونس، أو تعطي الدليل على أنها موجودة وتنتظر اكتمال شروط وقوعها. لنتأمل جيدا في عدد الخلايا النائمة التي تكتشفها بلدان المغرب بعد الفينة والأخرى في إطار عملياتها الاستباقية للتصدي للإرهاب.
إن التكاتف من أجل رسم إستراتيجية واضحة وفعالة بعيدة المدى لمكافحة الإرهاب لم يعد حاجة فحسب، بل أصبح أكثر من ضرورة. فليبيا التي دخلت مداراً مُزمناً من الصراع الداخلي، حوّلها إلى بلد منقسم على نفسه بين شرق وغرب، تشكل أكثر البؤر استغلالاً من قبل الإرهابيين، ينشطون على أرضها بالإقامة والتدريب، ويتزودون بالسلاح، ويتاجرون في الممنوعات لتغذية مقدراتهم المالية، ومنها يتسربون بسلاسة إلى دول الجوار، وتحديدا تونس والجزائر. أما تونس، التواقة إلى استكمال تجربتها في التحول الديمقراطي، فتحتاج إلى دعم مغاربي جماعي، يمكنها من تحصين انتقالها السياسي وتعميق نجاحه، والتصدي للإرهاب. والجزائر ـ البلد الذي خبِرَ الإرهاب وعانى من ويلاته طيلة عقد من الزمن (1990ـ 2000)، ويمتلك حدودا مترامية الأطراف على ضفاف ليبيا وتونس ومالي ـ فالإرهاب أكثر من قائم وخطير بالنسبة إليه، والأمر نفسه ينسحب على المغرب، الذي ضربه الإرهاب أكثر من مرة.
ليس أمام بلدان المغرب سوى الاندفاع بشكل جدي وفعال في المواجهة الجماعية للإرهاب والإرهابيين، ليس بكثرة الكلام والوعود، والاجتماعات غير المجدية، ولكن بالإرادة الصادقة، والرؤية العقلانية، والوسائل الفعالة.. إنه الخيار الوحيد المُجدي أمام المنطقة المغاربية.