لم يكن نصيبُ الليبيين من الاستقرار وإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد بعد سقوط نظامهم ـ الذي عمر أكثر من أربعة عقود (1969 ـ 2011) ـ كبيراً ولا لافتاً، فقد دخلوا دائرة الصراع على السلطة والنفوذ، وتفرقت سبُلُهم، ولم يعد أمامهم سوى لغة السلاح و الاقتتال الدموي. ولأن أربعين سنة من حكم "القذافي"، لم تسمح بمراكمة ثقافة سياسية مدنية، ترفع من شأن الدولة، ككيان للعيش المشترك، وتعزز مؤسسات الوساطة والتمثيلية، وتلحم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فقد فتح َسقوط النظام الباب مُشرعا أمام ظواهر وممارسات كرست الأزمة، وعمقت جروحها، وقادت الليبيين نحو الأفق المسدود. لذلك، تم إحياء النعرات القبلية، وتفاقمت الانقسامات الجهوية، وفقدت ليبيا القدرة على توحيد مؤسساتها السياسية والعسكرية والمدنية، فوجد الليبيون بالنتيجة أنفسهم أما أوطان بالجمع وليس وطن بالمفرد.
سجلت الأزمة الليبية حالة خاصة في سيرورة التغيير الذي تعرضت له مجموعة من الأقطار العربية، فهي تكاد تكون الوحيدة التي دخلتها القوى الأجنبية، ممثلة في منظمة حلف الشمال الأطلسي، تحت مبرر حماية المدنيين من عنف النظام وقوته، وخرجت منها مباشرة بعد سقوط هذا الأخير، لتترك البلد يواجه مصيره بنفسه. صحيح أن قوى دولية وإقليمية ظلت في تماس مع ما يجري في ليبيا، تارة بالدعم غير المباشر لفريق من المتصارعين على حساب فريق آخر، وطورا بالتشجيع على التفاوض من أجل الوصول إلى توافقات حول صيغة بناء ليبيا الجديدة، كما حصل للأمم المتحدة وقيادتها مختلف مراحل مفاوضات "الصخيرات"، قبل أن تتوصل كل الأطراف إلى صيغة لحل الأزمة.
يستمد التساؤل عن أفق الأزمة الليبية ومآلها أهميتَه من طبيعة المتغيرات الجديدة الحاصلة دوليا وإقليميا. فمن جهة، هناك قيادة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، تحمل تصورات مختلفة عن سابقتها، بما فيها رؤيتها تجاه الأزمة الليبية. فمن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من الساحة الليبية مباشرة بعد مقتل سفيرها "جون كرستوفر ستيفنز" في بنغازي في العام 2012، ومنذ هذه الواقعة لم يعد لها حضور مباشر أو لافت في ليبيا، غير أن إدارة "ترامب" الجديدة تستعد لوضع "اللمسات الأخيرة لسياسة دبلوماسية وعسكرية جديدة" حُيال ليبيا، وهي في الواقع جزء من رؤيتها للمنطقة العربية ككل، سبق للرئيس الأمريكي التعبير عن خطوطها العريضة في أول زيارة له للمنطقة، وللمملكة العربية السعودية تحديدا. فأمريكا على عهد "ترامب"، تسعى إلى القطع مع سياسة كل من "كلينتون" و"أوباما" تجاه "جماعات الإسلام السياسي"، أي التقارب معهم، بل بالعكس ترى في تكبيدهم الهزيمة، والقضاء عليهم نهائيا، أولوية قصوى، دليل ذلك تصريحات "ترامب" حين استقباله رئيس وزراء إيطاليا "باولو جانتيلوني" في البيت الأبيض في نيسان/ أبريل المنصرم (2017)، حين أكد على أنه لا يرى دورا للولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا عدا هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية". ثم من عناصر الرؤية الجديدة للإدارة الأمريكية، الدفع بليبيا، وباقي الدول العربية، إلى تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، وفي الحالة الليبية، نُشير إلى استجابة الحكومة المؤقتة برئاسة "عبد الله الثني"، المنبثقة من برلمان طُبرق، وإرساله وزيره في الإعلام والثقافة (عمر القويري)، بمعية وفد رسمي للاجتماع مع وفد اسرائيلي في جزيرة رودس اليونانية.
يتعلق المتغير الثاني بالمواقف الجديدة للقوى الأوروبية تجاه الأزمة الليبية، ولاسيما من قبل إيطاليا وفرنسا، وإلى حد ما ألمانيا وبريطانيا. فمن المعروف أن لإيطاليا علاقات تقليدية مع ليبيا، بحكم حقبة الاستعمار، وحجم الاتفاقيات التي بين البلدين، وفرنسا، وإن بدرجة أقل. لذلك، سيكون لهذه القوى تطلع للدفع في اتجاه تسوية ما، قد تكون صيغة معدلة لاتفاق الصخيرات، حتى تتمكن من التوقع في سيرورة بناء ليبيا الجديدة، من حيث الاستثمارات، والمشاريع الإعمارية، والنفط والغاز، وقائمة الفوائد والمنافع طويلة. ومن هنا لم يعد في إمكان أوروبا أن تبقى بعيدة عن الساحة الليبية، أو متفرجة على ما يجري في هذا البلد، لاسيما إذا استحضرنا القرب الجغرافي لليبيا من أوروبا، وما يشكل من مخاطر عدم الاستقرار والاقتتال في أراضيها، بالنسبة لدول جنوب وغرب أوروبا.
هناك متغير ثالث، وهو من طبيعة داخلية، لا يقل أهميته عن المتغيرات الدولية سالفة الذكر. يخص الشعور العام داخل ليبيا، والوعي المتنامي بضرورة خروج البلد من النفق المسدود الذي وصل إليه. فالاقتتال، والإقصاء والإقصاء المتبادل، ولغة السلاح كلها ممارسات ستحول ليبيا إلى دولة فاشلة، وسيؤدي الجميع كلفة هذا المآل. ثم إن الصراع على السلطة والثروة أصبح واضحاً من حيث أطرافُه، ومن يتحكم فيه، وحتى من يدعمه دوليا وإقليميا. لذلك، ثمة جدلية داخلية تدفع الأطراف دفعا نحو الاعتراف المتبادل، والتحاور من أجل إيجاد صيغة جديدة توافقية لإيقاف النزيف الحاصل منذ سنوات، وبناء مؤسسات الدولة واجهزتها، بما فيها الأمنية والعسكرية. فقد بات واضحا، على سبيل المثال، أن اللواء المتقاعد "حفتر" أصبح طرفاً غير قابل للاستبعاد في أفق أية تسوية مقبلة، بحكم الموقع الذي أصبح له في دائرة الصراع على القوة والنفوذ في ليبيا، وبحكم الدعم الموجه له خارجيا.
إن أية تسوية تتحقق في ليبيا، ولو في حدها الأدنى المعقول، ستساعد هذا البلد، وتفتح الأمل لأبنائه للتطلع إلى عيش كريم وحياة أفضل، ولليبيا من الموارد والإمكانيات والفرص ما يسمح لها بتوفير هذا النمط من العيش.