الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها
مصر أعمق وأكبر بكثير من أزمة
انهيار السياحة، وذلك رغم أن القطاع
السياحي يمثل نسبة تتراوح بين 9% و11% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد برمتها، وهي نسبة ضخمة وبالغة الأهمية، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، لكن الأزمة التي يعيشها الاقتصاد المصري تظل أكبر من ذلك وتبعث على القلق أكثر من أي وقت مضى.
نعلم ويعلم الجميع أن انهيار قطاع السياحة وحده سوف يكلف الاقتصاد المصري ثمنا باهظا؛ فالتقارير الأكثر تفاؤلا (قبل سقوط الطائرة الروسية) كانت تتحدث عن نمو اقتصادي متوقع في مصر بنسبة تتراوح بين 4% و5%، ما يعني أن قطاع السياحة لو تراجع بنسبة 50% فقط فسوف يؤدي إلى انكماش بدلا من النمو في الاقتصاد الكلي لمصر، علما بأن التراجع في الحركة السياحية منذ سقوط الطائرة الروسية يتجاوز 80%.
يمثل انهيار القطاع السياحي أزمة ذات اعتبار وتأثير كبيرين، لكنها تظل عابرة ويمكن تجاوزها إذا تعاملت معها الحكومة المصرية بصورة صحيحة، إلا أن المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها مصر تظل أكبر من ذلك بكثير، حيث إن كافة المؤشرات الاقتصادية التي ترد من هناك تبعث على القلق، وتدفع إلى الاعتقاد بأن الظروف الاقتصادية من سيئ إلى أسوأ، فضلا عن أننا نتوقع مزيدا من الانهيار في سعر صرف الجنيه المصري خلال الشهور القليلة المقبلة، بحيث سيصبح الدولار الأمريكي بعشرة جنيهات مصرية خلال فترة وجيزة، بما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية والمواد التموينية، ويؤدي تبعا لذلك إلى مزيد من التدهور في الظروف المعيشية للناس، ما لم يتم طبعا إنقاذ البلاد والعباد من الكارثة الاقتصادية المقبلة.
الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر اليوم، وأصبحت تتعاظم ككرة الثلج، بدأت يوم أن نزل الجيش إلى الشوارع في مصر يوم الثامن والعشرين من حزيران/ يونيو 2013، كان قرار نشر الجيش في مختلف أنحاء البلاد بمثابة انتحار اقتصادي، لسببين: الأول أن الجيش في مصر يهيمن على 40% من اقتصاد البلاد، ويلعب دورا مهما في تدوير عجلة الاقتصاد وتحقيق التنمية، وانشغاله بمعارك السياسة أو في الحروب يعني تعطيل جزء من الاقتصاد بشكل أو بآخر، وذلك على الرغم من أن الجيش ليس من دوره أصلا لا العمل في السياسة ولا المشاركة في تدوير الاقتصاد وتعزيز التنمية، إلا أن هذا هو واقع الحال في مصر.
أما السبب الثاني، فهو أن انتشار الجيش في الشارع منذ حزيران/ يونيو 2013 وحتى الان يكبد موازنة الدولة المصرية تكاليف باهظة جدا، وهي التكاليف التي لا يتم الافصاح عنها في مصر، بسبب غياب الشفافية في موازنات الجيش والأمن، وهي التكاليف التي تفسر أين ذهبت المساعدات المليارية التي تلقاها نظام السيسي ويتساءل كثير من المصريين عن اختفائها وأماكن تصريفها.
بحسبة بسيطة لتكاليف انتشار الجيش في شوارع مصر؛ فإن لدى مصر 470 ألف جندي نظامي (دعك من 800 ألف جندي احتياط)، ولو افترضنا أن نصف القوات فقط تنتشر في مختلف أنحاء الجمهورية فان 235 ألف جندي مصري يرابطون في الشوارع منذ أكثر من عامين، وبالافتراض جدلا (مجرد افتراض) أن تكلفة الجندي الواحد هو دولاران فقط يوميا، فهذا معناه أن الجيش يكلف 470 ألف دولار يوميا، أي 171.5 مليون دولار سنويا، وهو ما يعادل 1.4 مليار جنيه مصري سنويا، علما بأن هذه الحسبة افتراضية بحتة لأغراض التقريب فقط، بينما التكلفة الحقيقية أكبر من ذلك بكثير، حيث من المستحيل أن تكون تكلفة الجندي دولارين فقط في اليوم.
إذا أضفنا إلى التكاليف الفعلية لانتشار الجيش في الشارع، تكلفة الفرصة البديلة، أي تكلفة الفرصة الضائعة، ونقصد بها هنا المساهمة الاقتصادية التي كان من الممكن أن يقوم بها الجندي الواقف في الشارع لو تم تشغيله في مصانع الإنتاج الحربي بدلا من وقوفه في الشارع لحماية الانقلاب العسكري، فهذا يعني أن التكلفة سوف تتضاعف عدة مرات، وهو ما يعني في النهاية أن الانقلاب العسكري يكبد الاقتصاد المصري تكاليف بالمليارات سنويا، ويضيع على البلاد فرصا كان من الممكن أن تحقق تنمية ونهوضا اقتصاديا كبيرا.
يُضاف إلى العوامل السابقة التكاليف الباهظة للحرب على الإرهاب، وتكاليف العمليات العسكرية المستمرة في سيناء منذ أكثر من عامين، وهي تكلفة لا يُستهان بها، إذا علمنا أن الصاروخ من طراز (أس 300) على سبيل المثال يبلغ ثمنه مليون دولار، وإذا علمنا بأن تكلفة الطلعة الجوية الواحدة لطائرة (أف 16) تزيد عن 27 ألف دولار، وتكلفة التحليق بطائرة "الأباتشي" المروحية هو 12 ألف دولار في الساعة الواحدة!
خلاصة القول، هو أن السبب الرئيس لأزمة الاقتصاد في مصر هو نزول الجيش الى الشارع، واقتحامه عالم السياسة، وإحلاله بديلاً عن أجهزة الأمن، وهي أزمة عميقة وبالغة لا يمكن لمليار أو مليارين أو أكثر أن تنهيها، كما أن انهيار السياحة يمكن أن يشكل عبئا إضافيا على الاقتصاد الذي يترنح، لكنه لا يمكن مطلقا أن يكون السبب الوحيد للأزمة، ولا حتى السبب الرئيس لها.