في زمن قصير، وخلال فترات غير متباعدة، ضرب الإرهاب أكثر من بلد، ووجّهَ أهدافه صوب مواقع استراتيجية، ذات أبعاد حيوية عالية الحسّاسية: أسقط طائرة روسية فوق التراب المصري، مخلِّفا مئات الضحايا، ومضاعفات موجِعة للاقتصاد السياحي المصري، كما فجّر أماكن في ضاحية بيروت الجنوبية، بكل ما يحمل توقيت الانفجار ومكانه من رموز ودلالات، ليُصيب بعد ذلك فرنسا في أماكن متفرقة من قلب عاصمتها، بُغية إرهاب الناس وقتل روحَ الفرح ومُتعةَ الشعور بالأمان في نفوسهم.. إنه إرهاب " الدولة الإسلامية"، المسماة اختصارا "
داعش".. وها نحن نسمع ونُتابع منذ الجمعة الماضي) 20 نونبر/ تشرين الثاني 2015 ( عملياتِه في عاصمة دولة مالي، بل وفي أحد أفخم فنادقها، المفترض أن تكون أكثر حماية وأمنا.
لاشك أن كل ما جرى في هذه البلدان يستحق الإدانة، ويتطلب تكاتف الجهود من أجل التصدي له، والعمل على مقاومته في أصوله ومصادره. والواقع أن الانتصار على ما جرى لا يتحقق بإعلان الحرب عليه، وشلِّ قدُراته أينما وجدت ومتى وجدت، فهذه مقاربة على أهميتها لا تضع نهاية لفكر الإرهاب وتناسل المنادين به، بل قد تُشعل فتيل ناره، وتدفع به إلى المقاومة بالذات والجنوح إلى التطرف أكثر فأكثر.. وقد خبرتنا تجارب مقاومة الإرهاب في أفغانستان والعراق كيف كلما اشتدت الحرب على الإرهاب كلما ا تقوّى عودُه وخرج، كالعنقاء، من رماده. إن الحاجة ماسّة إلى مقاربة جديدة، صريحة وشُجاعة، لفهم مصادر ولادة هذا التِّنِّين المتوحِّش، وتحديد سُبُل التخلص منه. فالحاصل أن من تابع ويُتابع النقاشات حول "داعش" وما تقوم به، لا يلمس وجود أجوبة واضحة ومتوافق عليها حول أسئلة من كان وراء إنشاء تنظيم "داعش"؟، ومن" يقوم بتمويله"؟ ومن يرعى استمراره حيا ومتجددا؟ ومن يحاربه فعلا من أجل القضاء عليه؟.
لذلك، ولأن الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة المفصلية في فهم ما يجري من إرهاب وامتلاك القدرة على التخلص منه، ظلت ملتبسة وغير واضحة ومُقنعة، فقد "انقلب السحر على الساحر"، كما يُقال، أي أن من لجأ إلى اعتماد السحر ارتدَّ عليه، وأصابه في أكثر مصالحه حيوية وحساسية.
نحتاج إلى محاربة السحر بثقافة جديدة، موسومة بالوضوح، والصدقية، والنظر إلى العالم كمنتظم دولي مؤسس على الاختلاف، لكن ملزم بالعيش المشترك، والتحلي بثقافة وقيم العيش المشترك. ومن هنا ليس لما يسمى " الدولة الإسلامية" أو تنظيم "داعش" أبا واحدا، أي مصدر ولادة واحد، بل هي نتاج آباء كثر، أي مصادر متعددة، يمكن بسطها والتأمل فيها تباعا:
من الثابت أن الكل شارك بشكل أو بآخر في ولادة تنظيم "داعش"، واستثمرَ ديمومته، ومن لم يكن له نصيب في النشأة، تحقق له قسط من ذلك في استمرار التنظيم، وتوسعه، وبقائه حيّا ومتجددا. لنتأمل كيف تعامل الجميع شرقا وغربا مع هذا الكائن المُرعِب قبل حصول ما حصل في باريس ولبنان وسقوط الطائرة الروسية.
لم يكن الموقف الأمريكي من هذا التنظيم من الصرامة والإقدام ما يجعل الحرب عليه حقيقية وفعالة، بل كانت أولوية الأمريكيين تطويق تصاعد النفوذ الإيراني والعمل على الحيلولة بينه وبين امتلاك القدرة النووية. والأمر نفسه بالنسبة لقوى دولية وإقليمية أخرى. فتركيا لم يشكل تنظيم "داعش" عدوا من الدرجة الأولى، بل كان همُّها مواجهة الأكراد وإلحاق الهزيمة بهم، والأمر نفسه بالنسبة للمملكة العربية السعودية، حيث انصبت توجهاتها على الهلال الشيعي، وتحديدا إيران ومطامعها في المنطقة، وحتى النظام السوري، كان واضحا استثماره ورقة "داعش" لاسترجاع صدقيته وخلق الفتنة بين المناوئين له من كل الاتجاهات والآفاق. ثم لا يختلف اثنان في أن تلقي الدعم الكبير من قبل بريطانيا وفرنسا وأمريكا في بحر تصاعد الصراع المسلح في سوريا، فقد تمّ تسهيل انسياب المئات من الشباب من أوروبا والتحاقهم بمعسكرات " الجهاد" في أراضي العراق وسوريا التي أصبحت الإقليم القاعدة لإمارة " أبو بكر البغدادي".
لتنظيم "داعش" أب آخر إلى جانب ما تمّ بيانُه، إنه النظام السياسي العربي الذي تغوّل ووصل درجة من الشمولية فقد معها القدرة والكفاءة على توفير حد أدنى من الانفتاح والعدالة بين أبنائه ومواطنيه. وقد نسيت نخبته القائدة أن ثمة متغيرات جوهرية لا تسمح لها بالاستمرار متكوِّرة على نفسها، غير آبهة بما يجري حولها. ولذلك، وفرت، من حيث لا تدري، التربة التي ولد فيها فكر"داعش" وترعرعت ممارساته. لنتأمل في الخلفية التعليمية والاجتماعية لفئات الشباب الملتحقة بهذا التنظيم وأخواته.. إن مجملهم من ضحايا الاختلالات العميقة التي قسمت المجتمعات العربية.
أما الأب الثالث لتنظيم "داعش" وحاضِنُه، فهو الأفهام الدينية السائدة، والثقافة المروِّجة لها. فمما يلاحظ، مع الأسف، فشل البلاد العربية من المحيط إلى الخليج في مقاربة المسألة الدينية مقاربة متوازنة وناجعة، تحافظ للعقيدة على نقاوتها وجوهرها، وتفتح للعيش المدني سبل الارتقاء والتطور العقلاني. لنتأمل في القنوات المتناسلة هناك وهناك، و"فقهاء" الفضائيات الذين لا حدود لسلطانهم، ناهيك عن الاستثمار المفرط والمضلل في أغلب الأحيان لوسائل التواصل الاجتماعي.. إننا في حاجة إلى إصلاح ديني يعيد للإنسان حقه في التواصل مع خالقه مباشرة ودون ضغط أو تضليل..
هؤلاء هم آباء تنظيم "داعش" وأخواته، وبقتلهم، سنتمكن من حمل فكر "داعش" إلى مثواه الأخير، أما غير ذلك فسنظل ندور في حلقة مُفرغة.