منذ الاعتداء الأكبر على
المسجد الأقصى ومحاولة إحراقه عام 1969 لم تتجرأ
إسرائيل على اقتراف مثل هذه الممارسات الأخيرة التى استباحت فيها المسجد واقتحمته محاولة إحراقه من الداخل وإحداث تخريب واسع المدى بأرجائه.
في منتصف سبتمبر الماضي فوجئ الجميع بأكثر من 150 مستوطنا على رأسهم وزير الزراعة أوري أرائيل يقتحمون المسجد لتأدية طقوس خاصة قرب باب الرحمة داخل المسجد، وسبق ذلك قرار وزير الجيش الإسرائيلي موشيه يعلون بحظر مصاطب العلم والإعلان عن المرابطين الذين يقومون بحماية المسجد كتنظيمات غير قانونية، استخدمت قوات الاحتلال رصاصها المطاطي وقنابل الغاز والصوت داخل المسجد القبلي متسببة بعشرات الإصابات وإلحاق أضرار فادحة في نوافذه ومنشآته، واندلعت الاحتجاجات
الفلسطينية ضد ما حدث وامتدت دائرتها لمدن الضفة الغربية وداخل القدس بعد أن تمت مواجهتها بأشد وسائل القمع والتصفية الجسدية.
حتى هذه اللحظة ما زالت دماء الشهداء تعبق ثرى الأقصى وتروي أرض فلسطين التي طالما شربت الدماء، ولكن الجديد أن الأقصى يبدو كما لو أنه يقاوم وحده، ويبدو أن العالم العربي والإسلامي صار يتعامل مع الشعب الفلسطيني على أن قضية الأقصى هي شأن داخلي لا يعني سوى الفلسطينيين!
قبل ذلك في مصر كانت المظاهرات الطلابية في العقود الثلاث الأخيرة بالجامعات ترفع دوما شعارات المقاومة ونصرة القضية الفلسطينية وما تكاد تحدث بعض الاعتداءات الصهيونية على مواطنين فلسطيينيين أو على الحرم المقدسي - وكانت في أغلبها أقل بكثير مما يحدث الآن - إلا وتندلع التظاهرات الضخمة التي تحرق أعلام اسرائيل وأمريكا ولا يمكن نسيان مشاهد طلاب المدارس الابتدائية والاعدادية الذين خرجوا في أعقاب استشهاد الطفل محمد الدرة في مظاهرات طافت شوارع مصر تهتف كلها ضد إسرائيل وتندد بجرائمها، رغم مرور ما يزيد عن ثلاثين عاما من اتفاقية كامب ديفيد إلا أنها لم تنجح في تحقيق التطبيع الذي حلمت به إسرائيل التي ظل المصريون يرونها العدو الأول الذي لا يمكن مسالمته.
فما الذي تغير الآن في موقف المصريين من القضية الفلسطينية؟ بالتدقيق في المسألة نجد أن هناك اتجاهين الأول الاتجاه الرسمي والثاني الاتجاه الشعبي، ودائما كانا على مسافة مختلفة لأن الأنظمة المتعاقبة في مصر لم تغير موقفها المهادن لإسرائيل والحريص على عدم مس معاهدة السلام أو التورط حتى في تصريحات حادة ضد إسرائيل ولن نقول أفعالا لأن مرحلة الفعل الرسمي ماتت تقريبا على مدار ثلاثين عاما.
اليوم يشعر البعض منا أن الموقف الشعبي لم يعد يختلف كثيرا عن الموقف الرسمي الصامت والباهت فهل هذه حقيقة أم افتراض خاطئ؟ يعتقد أيضا البعض أن السبب في ضعف التعاطف والتفاعل مع القضية الفلسطينية هوالتضييق على المجال العام وخنق الحريات ومنع التظاهر بشكل عام وهذه حقيقة لكن لا يمكن تجاهل التغيرات النفسية العميقة التى حدثت في نفوس شرائح ليست صغيرة من المصريين الذين يتعرضون يوميا لإعلام بائس يصور الفلسطينيين كإرهابيين يريدون هدم مصر ويعتمد في أكاذيبه على عداء هؤلاء لجماعة الإخوان ويربط بين حركة حماس وبين كل ما يحدث في سيناء بالإضافة لرواية الثورة المضادة التى تصور ثورة 25 يناير كمؤامرة يقف وراءها الإخوان وحماس، هذا الخطاب الاستعدائي ضد فلسطين ظهر جليا أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة قبل عام حين خرجت أصوات إعلامية تتمنى النصر لنتنياهو وعصابته على الفلسطينيين الإرهابيين كما وصفوهم!
هناك بُعد نفسي آخر يتمثل في سيل الدماء الذي كسا وجه مصر خلال الأعوام الماضية فقد تعود المصريون على مشاهد الدماء وباتت أرقام القتلى شيئا عاديا لا يثير الناس ولا يلهب غضبهم، فإذا اغتال الصهاينة شابا فلسطينيا أو امرأة أوطفلا فلن يعني هذا الكثير لأن كل مصري الآن يعرف شخصيا على الأقل شخصا أو اثنين أو عشرة قد قتلوا خلال الفترة الماضية فلم تعد مرارة الفقد تعني الكثير ولم يعد الموت كحدث يعني الكثير! البعد الثالث هو كم الإحباط العام والأسى الذي يملأ قلوب المصريين بعد انتكاسة ثورتهم وتمكن الثورة المضادة وأذنابها فكل يوم يستيقظ المصريون على حادثة جديدة ومأساة جديدة فكيف يفكرون فيما يحدث حولهم من مآس؟
خطورة ما يحدث الآن أن القضية الفلسطينية في طريقها للذوبان لدى الأجيال الجديدة من المصريين الذين لم يخبرهم أحدا عن فلسفة القضية وماهية الصراع وجوانبه العقدية قبل السياسية، قبل أن نفاجأ بجيل جديد يعتقد أن المقاومة إرهاب وأن الصهاينة ضحايا وأبرياء. علينا استعادة زمام المبادرة ونشر الوعي وغرس معاني القضية الفلسطينية في نفوس أطفالنا، ومهما تعاقبت الأجيال ففلسطين هي قضية العرب المركزية وهكذا يجب أن يدرك أبناؤهم ويتعلموا.