على وقع الضربات الجوية المكثّفة للطيران الروسي وسياسة الأرض المحروقة التي تتولى ترجمتها القنابل العنقودية والحارقة على الأرض السورية، وعلى دبيب حشود إيران المكوّنة من مرتزقة المنطقة وقطاع طرقها، تحاول روسيا وإيران ترسيم ملامح شرق أوسط جديد تكون سورية بؤرته ويؤمن لهما فضاءا من السيطرة والنفوذ من شأنه تأمين إعادة تموضعهما كقوّة فاعلة ومحركة في النظام الدولي الراهن.
لا شك تلك مهمة ليست باليسيرة على قوى بحجم ووضعيّة روسيا وإيران، ذلك أن الإستئساد على الشعب السوري وكثافة النيران الهائلة التي تضخانها في الجسد الممزق وهدير قاطعي الرؤوس المستوردين من العراق ولبنان تخفي وراءها الكثير من الأعطاب الاقتصادية والعسكرية في بنية البلدين بحيث يبدو تصديهما لمهمة تقطيع سورية وترويض الشرق الأوسط، بما ينطويان على عقد ومشاكل، أمر أشبه بالأحجية التي يلفها قرار غير عقلاني، ولا يمكن فهم هذه الخطوة إلا بتفكيك طريقة التفكير التي تقف وراء هذا القرار ومعرفة رهاناته التي تشكل المحركات الأساسية لهذه العملية وتحفزهما على السير بها:
أولا: تتصور كل من موسكو وطهران أن البيئة الحاضنة للمقاومة السورية جرى شطبها وإنهاؤها، فهذا الكم الهائل من المهجرين والمعاقين والمفقودين يتم خصمه من رصيد تلك القوة، وما تبقى من تلك البيئة، فهو إما نازح ضمن مناطق النظام وبالتالي فهو كم مجرد القوة، أو محاصر ضمن مناطق مغلقة بإحكام ويجري إحتسابه ضمن القوى المنهكة والعاجزة، وهذا الكم، المقيد والمحاصر، يمكن تحويله إلى عبئ على أنصار الثورة وورقة بيد وكيلهما في دمشق عبر توظيفه في إظهار التأييد للنظام وشركائه وللحلول التي سيتم طرحها مستقبلا، سواء ما تعلق منها بالانتخابات النيابية أو الإستفتاءات الدستورية التي ستحدد نظام الحكم وحتى الانتخابات الرئاسية، وبالتالي، فإن إحتمالية حصول مقاومة مهمّة وفقا لهذه الحسابات تبقى متدنية إذا لم تكن معدومة، وذلك بعد أن تنجز العملية الحالية مهمّة تدمير البنى والهياكل والأطر الثورية الموجود حاليا عبر الهجوم الكثيف وضمن مدى زمني محدود.
ثانيا: إرباك القوى الإقليمية الداعمة للثورة ودفعها للإنكفاء عبر ممارسة عروض للقوة وسياسة اللعب على الحافة، أو خلق مشاكل داخلية لها كما هو حاصل في تركيا، وإستثمار حالة الإرتباك والعجز لدى القوى الدولية التي باتت بأمس الحاجة لأي حل في سورية يخلصها من مفرزات الأزمة وتداعياتها المستمرة، سواء بالنسبة لأوروبا التي إكتشفت أنها لا تستطيع تحمل المزيد من طوفان المهاجرين إليها، أو الولايات المتحدة الأمريكية التي تزدحم مفكرتها الإستراتيجية بقضايا وهموم أكثر فائدة ومردودية من سورية والشرق الأوسط نفسه.
في حسابات الربح والخسارة لدى موسكو وطهران، يجري رسم سقف منخفض للخسارة مقابل فضاء واسع ومفتوح للربح، حجم الخسائر يمكن تحملها في ظل الحسابات الميدانية الإفتراضية لديهما، ثم أن العنصر البشري، وهو العامل الذي عادة ما يتم قياس حجم الخسارة على أساسه هو عبارة عن جسم من مرتزقة يجري تجميعهم من سورية والعراق ولبنان، ما يجعل الخسارة في هذا الجانب تساوي صفر بالنسبة لموسكو وطهران، وعلى الجانب الاقتصادي فبالرغم من أن البلدين غارقان بمشاكل اقتصادية إلا أن الحرب في سورية تشكل في تصوراتهما فرصة لرفع أسعار النفط بحيث يجري تعويض ما يتم خسارته من عائد إرتفاع أسعار النفط لاحقا.
مقابل ذلك تبدو المكاسب الإستراتيجية التي تلوح في الأفق مغربة، حيث تثبت روسيا وجودها في البحر الأبيض المتوسط وتصبح قوة عالمية ذات نفوذ وهيمنة بما يشكل أوراق إعتماد وازنة لإعادة موضعتها في إطار القوة المقرّرة في العالم وتفرض شروطها وقواعدها في إدارة العالم، أما إيران ستفرض نفسها لاعبا إقليميا بعد أن تكرس نفسها في قلب النظام العربي وبعد إخراج سورية والعراق ولبنان من قلبه ووضع الخليج تحت رحمتها.
لكن بعيدا عن تلك الحسابات والرهانات النظرية، الواقع السوري أعقد بكثير من إختزاله ضمن معطيات غير حقيقية، والقيام بذلك عن سبق إصرار وتصميم من قبل موسكو وطهران هو وصفة لعملية إستنزاف طويلة ومهلكة تقدمان عليها بعيون مفتوحة، ومنطق الحسابات الكمية دائما لا يثيت جدواه في مثل هذه الحالات، والمعطيات التي يجري البناء عليها في الحقل السوري، هي في الغالب معطيات متحركة لا تصلح لبناء أساسات إستراتيجية معمّرة، على مدار أربع سنوات أوهمت المقاومة السورية الكثير من القوى أنها في طور الإحتضار وعلى هذا الأساس جردت الحملات الإيرانية والحزب اللاهية لكن سرعان ما إكتشفت أنها تغوص في سراب لا أفق له.